لم تكن صدمة (المثقفين) كبيرة بانتقال المعرض الدولي للكتاب من الدار البيضاء إلى الرباط، أعني لم يشعر (المثقفون) بأن اعتداء رمزيا تعرضت إليه مدينة الدار البيضاء بانتزاع أهم حدث ثقافي بها منها ومنحه للعاصمة. نعم، ارتفعت في البداية همسات مستفسرة وأخرى مندهشة في البداية، لكن سرعان ما هدأ الوضع، ولم ترتفع أصوات بالاحتجاج على اجثتات عرس ثقافي ارتبط بالدار البيضاء، ولا ارتفعت بمقاطعة التظاهرة عند إقامتها بالعاصمة. كان هناك هدوء كامل إلا من بعض صراخ يعلو هنا أو هناك، من تلك الحانة أو ذلك الشارع، في مقهى أو على قارعة قاعة.
لكن، ما سر رضا (المثقفين) عن هذا الانتقال؟ وما بالهم لم يعترضوا؟
حين أقول المثقفين، فإنني أقصد المفكرين الحقيقيين والمزيفين، الكتاب الحقيقيين والكَتَبة، المبدعين الحقيقيين والأدعياء، عشاق الكتاب الحقيقيين والاستعراضيين، العميقين وقراء الأغلفة… هؤلاء جميعا بدوا راضين عن انتقال معرض الكتاب من الدار البيضاء إلى الرباط، ولذلك أسباب أراها واضحة، واضحة جدا.
فالمثقفون يعتبرون الدار البيضاء والرباط مدينة واحدة، ليست بينهما مسافة حقيقية. المسافات تُلغى بين المدينتين، ولا يسمى الانتقال بينهما “سفرا” بل “طلعة”، مجرد “طلعة لكازا أو طلعة للرباط”. ثم إن الركوب في قطار صحبة كتاب مفتوح صار طقسا اعتياديا أدمن عليه المثقف كما أدمن على قهوته اليومية بمقهى وسط المدينة. فما أجمل ركوب قطار بكتاب في اليد والتقاط صورة!
ثم إن انتقال المعرض إلى الرباط فيه جانب كبير من الاستحقاق، فالعاصمة تضم أهم وأقوى المراكز والمؤسسات الثقافية الوطنية والأجنبية في البلاد، تلك التي يحلم المثقف في الهوامش البعيدة بالوصول إليها أو دخولها. وبالتالي، لا يبدو لائقا أن يهاجم قرار احتضان الرباط للمعرض خاصة وهي تتباهي عالميا اللحظة بكونها عاصمة الثقافة العربية.
إضافة إلى كل هذا، فإن انتقال المعرض إلى الرباط هو بمعنى من المعاني تقريب له من المثقفين وليس إبعاده عنهم، فأغلب المثقفين العميقين والسطحيين يعيشون في الرباط، يؤثثون قاعاتها وفنادقها وباراتها ومقاهيها وأرصفتها وشوارعها وكل أماكنها الشاغرة.
فهل نجحت الرباط في منح المعرض الدولي للكتاب خصوصيتها أم احتفظ المعرض بخصوصيته البيضاوية؟
عند الوصول، تشعر بوجود فرق ما بين معرض كازا ومعرض الرباط، فرق يكاد يكون كبيرا. فكل شيء في الخارج نظيف ومرتب ومنظم وهادئ، صفوف من الأطفال واليافعين والكبار تنتظر أن يفتح المعرض أبوابه. ورجال الأمن ينتشرون بأناقة حول المكان، وباعة الديطاي والقهوة والبيموات والأشياء التافهة منعدمون، والمثقفون قليلون، قليلون. فهم لا يزورون المعرض إلا في المساء غالبا. أطفال المدارس يحتلون المشهد، المدارس الخصوصية طبعا. ستعرف ذلك من حافلات النقل المدرسية، ومن أثر وجبة الإفطار على وجوههم المستبشرة.
في البوابة، تصافحك الابتسامات المحاطة بلحى خفيفة أو مسورة بأحمر شفاه. تشعر بأن المعرض فعلا يرحب بقدومك، وبأنه يريدك فعلا أن تدخل وتستمتع بوقتك في زيارة الأروقة، ويتمنى لك يوما سعيدا. عكس معرض الدار البيضاء، وبسبب الازدحام والهرج والشمس والغبار خارجه تشعر وكأن المعرض لا يحب قدومك، أو أنه يعلم بأنك لن تشتري أي كتاب، ستساهم في الازدحام فحسب.
عند الدخول، لا مجال للصدفة، أو الدخول إلى مكان ما ع الله. كل شيء مرقم ومعلّم ومشوّر. والطريق واضحة، تعرف أولها وتعرف نهايتها. عكس معرض الدار البيضاء، فأنت تسير فيه ولا تعرف إلى أين تقودك قدماك، وغالبا ما تجد نفسك تدور في نفس المكان عشرين مرة، وتسأل في كل مرة من أين يدخلون ومن أين يخرجون.
وما إن تبدأ الزيارة، تشعر وكأنك انتقلت في الزمن عشرين سنة، نعم، يكاد الفرق بين معرض الدار البيضاء والرباط يساوي عشرين سنة تقريبا. ففي كل جناح طابليتات عملاقة موصولة بالإنترنيت تقودك إلى موقع الجهة العارضة، تتعرف عليها، تكتشفها، تعلم مبادئها ومشاريعها وآفاقها، وطبعا يمكنك أن تسرق نشوة استثنائية، بأن تجعل الطابليت العملاق جهازك الشخصي، وتستعمله للبحث الشخصي دون أن ينهرك أحدهم: حيّد يدك!
هنا في الرباط، يدهشك النظام عند الوقوف أمام أجنحة الناشرين، لا تشعر بأنك أمام مكتبة لبيع الكتب… ليس بالداخل وجوه تتعرق وتتأفف، ومشغولة بلف المشتريات. الكائنات بالداخل أنيقة، أنيقة فعلا.
هنا في الرباط كما في الدار البيضاء، المراهقون والمراهقات، الشباب والشابات أيضا يحبون التقاط الصور والفيديوهات لعرضها لاحقا على الانستغرام والتيك توك، لكنهم هنا يشترون حقا، يشترون كتبا مختلفة، وقد يتحاورون ويتناقشون مع العارضين، ليس حول السعر طبعا.
هنا الرباط، يمكنك أن تسير بأمان ولا تتحسس جيوبك وهاتفك حذر السرقة. هنا الزوار لا يسرقون، على الأقل محافظ الناس وهواتفهم. أما سرقة الكتب فغير مضمونة. لعلنا سننتظر أن ينتهي المعرض ويحصي العارضون خسائرهم، ثم بعد ذلك يعلنون.
هنا الرباط، الجميلات في كل مكان، الجميلات كثيرات. أو للتدقيق اللواتي يخرصت على مظهرهن كثيرات. كأن زائرة معرض الكتاب في الدار البيضاء لا تحب أن تبدو للناس جميلة، كأنها تريد أن تكون قبيحة، فالقبح في بعض المعارض دليل نبوغ وصلابة مبدأ.
في الرباط، كما في كازا، (طاكوس) له اليد العليا في المعرض. يمتد مطعم كبير مستبد، احتل قطعة من الأرض بخيامه وكراسيه، واحتل نصف الجو بروائحه… هنا في الرباط كما في معرض الدار البيضاء، رائحة الفريت أقوى من رائحة الكتب.
تعليقات ( 0 )