الساحل والصحراء.. نحو مقاربة مبتكرة لمواجهة التهديدات الأمنية

إنّ ممّا يثير المخاوف لدى كل المهتمين بظاهرة الإرهاب في الساحل والصحراء وعلى المستوى العالمي بصفة عامة، هو المنحى التصاعدي الذي اتخذته العمليات المسلحة في السنين الأخيرة. وما يزيد الوضع توجساً هو تطور تلك العمليات ليس من حيث العدد فحسب وإنما من حيث النوعية كذلك. فقد انتقلت الجماعات المتطرفة من استهداف الأفراد والجنود المعزولين في عمليات خاطفة، إلى هجومات منسقة وكبيرة على ثكنات وقوافل عسكرية، ونسوق هنا مثال الهجوم الذي استهدف المقر العام لقوات تحالف دول الساحل الخمسة المعروف باسم “جي5” في يونيو 2018. وكانت عملية عين أمناس بالجزائر سنة 2013 قد أظهرت قدرة التنظيمات الإرهابية على تنفيذ عمليات في مواقع حساسة وعالية الحراسة وتبعد عن مركزها بحوالي ألف كلم.

ولا يخفى أنّ التصعيد غير المسبوق وعلى نطاق واسع للهجمات الإرهابية على دول الساحل دون استثناء، وفي توقيت متقارب يدلّ على تعاظم القدرة على التخطيط والتنفيذ واللوجستيك لدى تلك الجماعات المسلحة، وقد يعني أيضاً وجود غرفة عمليات موحدة، كما يمكننا أن نتحدث عن اختراق استخباراتي محتمل أتاح لتلك الجماعات الحصول على معلومات حول القوافل العسكرية وتوقيت تحركها ومسارها، مما سهل مهاجمتها.

وإذا قمنا باستعراض سريع لمنحى التطور النوعي للهجمات سيتضح لنا مدى خطورة الوضع. فقد استهدف هجومان مسلحان قوات حفظ السلام الأممية في مالي المعروفة باسم “مينوسما” في يونيو 2021؛ وفي نفس الشهر نفذ هجوم دموي على بوركينافاسو راح ضحيته 160 مدنياً في المنطقة المعروفة بالمثلث الحدودي؛ وفي شهر شتنبر 2021 تعرضت قاعدة عسكرية في نيجيريا لعملية راح ضحيتها 12 جندياً؛ كما أعلنت مالي عن مقتل خمسة جنود في وسط البلاد في كمين نفذته جماعات مسلحة في 13 شتنبر؛ وقبلها بأسبوع نفذت جماعة “بوكو حرام” هجوما على قاعدة عسكرية في النيجر خلف 16 قتيلاً وتسعة مفقودين ربما أخذوا كرهائن.

وكنتيجة مباشرة لتدهور الوضع الأمني، تزايد عدد النازحين الذين تركوا موطنهم الأصلي فراراً من جحيم الحرب وما يصاحبها من تهديدات بالخطف الذي يطال الفتيات بشكل خاص، كما رأينا في نيجيريا في مرات سابقة. وحسب تقرير الأمم المتحدة في شتنبر 2019 بلغ عدد النازحين في مالي وحدها أزيد من خمسة آلاف نازح، فروا من بؤر القتال وسط وشمال مالي في مدن مناكا، غاو، تمبوكتو، موبتي، دجيني، كيدال، وغيرها. وهذا يؤكد أن نشر القوات الأممية والفرنسية منذ 2013، وتعزيزها بقوات “جي5” لدول الساحل الخمسة منذ 2017، لم تفلح لحد الآن في إزالة أو خفض التهديدات الأمنية على المدنيّين.

ما نلاحظه إذن، هو تزايد للعمليات الإرهابية كما وكيفاً في مقابل ارتباك في صفوف التحالف الدولي المناهض للإرهاب، ففرنسا التي فقدت حوالي 50 جنديا منذ بدأ عملياتها في الساحل، أعلنت على لسان رئيسها ماكرون نهاية عملية “برخان” على خلفية توتر شديد في علاقاتها مع الحكام الجدد في مالي ناتج عن تزايد النفوذ الروسي، وصل حدّ طرد السفير الفرنسي لدى باماكو في 31 يناير 2022. وفي نفس السياق أعلنت مالي في 15 ماي 2022 انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس “جي5”. ولا شك أنّ هذه الأحداث ستفتح الباب أمام أكثر السناريوهات تشاؤماً، خاصة مع دخول مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية إلى المعادلة مما قد يخلط كل الأوراق في المنطقة.

إشكالية تعدد المتدخلين وظهور فاعلين غير تقليديين

يتواجد في مالي منذ 2013 حوالي 13 ألف جندي من قوات حفظ السلام، و5 آلاف جندي فرنسي يعملون بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2085 الصادر في 20 دجنبر 2012. وابتداءً من يونيو 2017، نشرت دول الساحل الخمس قوة تتألف من 4500 جندي بعد أن صادق عليها مجلس الأمن في قراره عدد 2359. ولكن تعدد المتدخلين الدوليين خلق في حدّ ذاته تحديات جديدة على مستوى التنسيق والتمويل، بل ويمكن أن يشكل فجوة تتسلل منها العناصر المحسوبة على الإرهاب والجريمة المنظمة والتي أصبحت لها القدرة على الذوبان وسط القبائل المحلية.

موازاة مع هذا التعدد في المتدخلين الرسميين ظهر على الساحة فاعلون غير تقليديين. فقد لجأ المواطنون في شمال مالي على الخصوص إلى جماعات مسلحة للدفاع الذاتي لتعويض الفراغ الذي استشعروه من قبل الدولة في حمايتهم. ومن أبرز هذه التنظيمات “إمغاد” و”حركة السلام لشعب الأزواد” وحركة “أمباساغو” للدفاع عن إثنية Dogou، و”التحالف من أجل السلام في الساحل” التابع لإثنية Peule. وهذا مؤشر آخر على انهيار الدولة المركزية وعدم قدرتها على القيام بأهم وظائفها التقليدية وهي حماية أمن وسلامة مواطنيها.

ورغم أن هذه المجموعات أنشئت أساساً لمواجهة الجماعات الجهادية ومنها تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبط بتنظيم “القاعدة”، إلاّ انّ ذلك لم يمنعها من شن غارات على بعضها البعض كما حدث في 25 يوليو 2018، حين هاجم تنظيم “التحالف” حركة “أمباساغو”، وفي اليوم الموالي ردت هده الأخيرة بهجوم مضاد في إقليم دجيني، مما خلف 17 قتيلاً بين الطرفين.

حدث ذلك في ظل تواجد قوات “منوسما” الأممية وقوات “برخان” الفرنسية. وأمام هذا الوضع لا محيد عن التساؤل حول الجدوى من وجود تلك القوات في غياب أثر مباشر على حماية المدنيين أو القضاء على الجماعات المتطرفة، بل إن هذه القوات تورطت في قتل المدنيين كما وقع في يناير 2021 حيث شن الطيران الفرنسي غارة على قرية “بونتي” راح ضحيتها 19 قتيلاً كانوا يحضرون حفل زفاف، حسب تقرير للأمم المتحدة صدر في شهر مارس من نفس السنة.

المقاربة الأمنية ضرورية ولكنها غير كافية

إن الإشكاليات والاختلالات المرتبطة بظاهرة الإرهاب في الساحل والصحراء أو في غيرها من بقاع العالم لا يمكن اختزالها في مقاربة أمنية أو عسكرية بحتة، وقد عبر عن ذلك البيان الختامي لقمة التحالف الدولي ضد داعش، الصادر في 11 ماي 2022 بمدينة مراكش، حيث أكد على دعم التحالف للجهود التي يقوم بها المدنيون والمجتمع المدني، وعلى معالجة الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تغذي الإرهاب. ولعل هذه المُسلّمة التي كان يُشكك فيها البعض أصبحت حقيقة غير قابلة للجدال بعد قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الخروج من أفغانستان خلال شهر عشت 2021، بشكل فجائي أربك حتى حسابات حلفائه الأوربيين.

ولا بدّ من التذكير بأن هذا الخروج وبهذا الشكل الأقرب إلى الهزيمة، أعاد أفغانستان إلى نقطة الصفر مع عودة حركة طالبان إلى سدّة الحكم في كابول، علماً أن إزاحة هذه الحركة من السلطة كان هو الهدف الأبرز والمعلن من تلك الحرب التي دامت عشرين سنة وكلفت واشنطن أزيد من ألْفَيْ مليار دولار حسب تصريح الرئيس الأمريكي في 26 غشت 2021، مخلفة وراءها حصيلة ثقيلة قوامها 241 ألف قتيل أغلبهم من المدنيين، وأزيد من 2.5 مليون لاجئ أفغاني خارج البلاد.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال التقليل من شأن الجهود الأمنية والعسكرية التي وجهت ضربات قاصمة إلى التنظيمات الإرهابية، نذكر منها على سبيل المثال تمكن القوات الأمريكية سنة 2011 من قتل أسامة بن لادن زعيم القاعدة، ثم اغتيال زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي سنة 2019، وخلفه أبو إبراهيم القرشي في فبراير 2022. كما تمكنت القوات الفرنسية من قتل أبي الوليد الصحراوي سنة 2021 وعبد المالك درودكال سنة 2020، وهما على التوالي زعيما تنظيمي داعش والقاعدة في الساحل والصحراء.

مشاكل الحدود الموروثة عن الاستعمار ومطالب الأقليات عامل مساعد لتمدد التطرف

إنّ العوامل الحاضنة والمؤججة للإرهاب في إفريقيا معقدة ومتعددة، منها ما يرتبط بالتركيبة الإثنية المختلة داخل الحدود التي سطرها الاستعمار وفقاً لما تقتضيه مصالحه الحيوية وحسابات نفوذه الجيوسياسي آنذاك، دون أدنى مراعاة لتاريخ تلك الشعوب ولا للتوزيع القبلي والحساسيات الدينية والعرقية التي كانت سائدةً في تلك المجالات الجغرافية قبل الاحتلال الأوربي للقارة السمراء.

وهذا ما أدى إلى تفجر النزاعات المسلحة داخل القارة منذ اللحظة الأولى لاستقلال تلك الدول في مطلع الستينيات من القرن العشرين، ويمكن أن نستشهد بإقليم “البيافرا” الذي أعلن استقلاه عن نيجيريا سنة 1967 وخاض سكانه ثلاث سنوات من الحرب أدت إلى كارثة إنسانية بمقتل مليون شخص. ولكن الهزيمة تولد الشعور بالقهر لدى المغلوب وهذا ما قد يدفع بعض الأهالي في تلك المناطق إلى توفير الحماية والبيئة الحاضنة للإرهاب كشكل من أشكال الانتقام وردّ الاعتبار.

وفي هذا السياق يبرز أيضاً إقليم أزواد الذي طالب بالاستقلال عن مالي منذ 1962 ولازال يطالب بذلك، أو إقليم كاتنغا الذي أعلن استقلاله عن الكونغو لمدة سنتين، أو إقليم زنجبار الذي ضمته تانزانيا سنة 1964، دون أن ننسى السودان الذي استمر فيه الصراع قرابة نصف قرن قبل أن ينتهي إلى تقسيمه بين شمال وجنوب، وكذلك كان بالنسبة لإثيوبيا التي انفصلت عنها إرتيريا وربما قد يأتي الدور على إقليم تغراي الذي اندلعت فيه هو الآخر مواجهات مع قوات أديس أبابا في السنتين الأخيرتين للمطالبة باستقلاله.

عودة الصراعات الإثنية مع انهيار جدار برلين

وبعد فترة من الخمود لم تتجاوز ثلاثة عقود، بسبب الحرب الباردة، عادت الحروب على أسس عرقية وقبلية للبروز إلى السطح وبشكل أكثر مأساوية مما سبق، حيث شهد مطلع التسعينيات من القرن العشرين مجازر التطهير العرقي في رواندا راح ضحيتها حوالي مليون إنسان من أقلية التوتسي على يد أغلبية الهوتو، في صراع غذته مصالح الشركات الغربية. وقد اعترف الرئيس الفرنسي نفسه، إمنويل ماكرون سنة 2021، بأن فرنسا تتحمل جزء من المسؤولية فيما جرى بسبب غضها الطرف عن التحضيرات التي كانت وراء تلك الجرائم ضد الإنسانية.

ومن تلك الصراعات الإثنية ما شهد كُمونا لفترات متفاوتة، ثم ما لبث أن عاد للظهور في أول فرصة سانحة، كما هو الشأن بالنسبة لمنطقة الأزواد التي أعلنت استقلالها سنة 2012، بعد ضعف الدولة المركزية بسبب الانقلابات العسكرية، وتحت الضربات القوية والمركزة للجماعات الجهادية التي انتقلت إلى هذه البطن الرخوة لإفريقيا، بعد أن حوصرت في دول الشرق الأوسط، وأخص هنا بالذكر تنظيمي “داعش” و”القاعدة” وما تفرع عنهما من جماعات “موجاو” و”أنصار الدين” ثم “نصرة الإسلام والمسلمين” و”الموقعون بالدم” وبوكو حرام” وغيرها. وقد استفادت تلك الجماعات من المناخ الذي صاحب سقوط النظام في ليبيا، وانتشار أزيد من 11 مليون قطعة سلاح كانت في مخازن القذافي حسب تقارير دولية.

حرب اقتصادية بأقنعة متعدّدة

ويمكن أن نؤكد دون تردد أنّ معظم تلك الحروب الأهلية أو الإقليمية، أو حتى المرتبطة بالجماعات المتطرفة، ورغم صبغتها العرقية أو القبلية أو الطائفية أو الدينية، إلاّ أن رائحة المصالح الاقتصادية والصراع على النفوذ بين القوى الدولية الكلاسيكية منها أو الصاعدة، دائماً ما كانت تنبعث من بؤر التوتر والنزاعات المسلحة.

ومما يعزز هذا الطرح الصراع الحالي بين فرنسا وروسيا في مالي. ففي غشت 2020 قامت مجموعة من الضباط الماليين بالإطاحة بحليف فرنسا الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، فور عودتهم من تدريب عسكري تلقوه في موسكو. ومن مكر السياسة أن هذا التدريب تم في إطار اتفاق عسكري وأمني بين روسيا ومالي وقعه الرئيس المخلوع إبراهيم بوبكر كيتا في يونيو 2020، ولم يكن يعلم أنّه يوقع بذلك الاتفاق على نهاية حكمه.

وفي نفس السياق يمكن الحديث عن الشكوك حول العملية الإرهابية التي تعرضت لها قافلة تجارية مغربية شمال مالي في شتنبر 2021، وراح ضحيتها ثلاثة من سائقي الشاحنات المغربية، حيث وجهت أصابع الاتهام للمخابرات الجزائرية التي تسعى إلى ضرب المصالح المغربية في القارة السمراء.

ومن جهتها تواصل الصين تغلغلها الناعم في إفريقيا حيث أصبحت الشريك الاقتصادي الأول للقارة الإفريقية برمتها. وهو ما لا تنظر إليه أوربا والولايات المتحدة بعين الرضا وقد يدفعها إلى تحريك ما تبقى لها من الخيوط خلف الستار حفاظا على مكتسباتها السابقة.

وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن عامل آخر يساعد على خلق البيئة الملائمة لتفريخ الإرهاب داخل القارة، وهو غياب الديمقراطية وانتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تزيد من إضعاف دول الساحل والصحراء أمنياً ومؤسّساتيا، وتكرس عجزها الدائم اقتصاديا واجتماعيا.

الانقلابات العسكرية تضعف المناعة ضد الإرهاب

من بين كل الأمراض المزمنة التي تنخر جسد إفريقيا وتضعف مناعتها في مواجهة مختلف التهديدات الأمنية، بما فيها الإرهاب والجريمة المنظمة، تحتلّ الانقلابات العسكرية مكانة الصدارة، حيث لم تتوقف قطّ إلا لفترات تُشبه استراحة المحارب لتعود من جديد. ويكفي أن نضرب مثلا بسنة 2021 التي شهدت خلال شهر مارس محاولة انقلابية في النيجر، وفي أبريل قتل الرئيس تشادي إدريس دبي على يد متمردين يطالبون بإنهاء الحكم الفردي الذي دام أزيد من 30 سنة.

وفي مايو من نفس السنة عاشت جمهورية مالي ثاني انقلاب في أقل من سنة واحدة، وفي شتنبر أطاح انقلاب عسكري برئيس غينيا كوناكري، كما تم الإعلان في 21 شتنبر 2021 عن إجهاض انقلاب آخر في السودان، بالإضافة إلى إعلان المجلس العسكري في مالي عن إحباط محاولة انقلابية أخرى خلال شهر ماي 2022. أما إذا رجعنا بالذاكرة إلى أبعد من ذلك فسنجد أن دول الساحل بدون استثناء لم تسلم من هذه العدوى سواء في نيجيريا أو بوركينافاسو أو موريتانيا أو غيرها من البلدان الإفريقية.

ومع كل انقلاب جديد تتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتتراكم لأنّ الدول المعنية دخلت في دائرة مفرغة يصعب الخروج منها. ذلك بأنّ الانقلابات غالبا ما يتم تبريرها بمحاربة الديكتاتورية والفساد والهشاشة الاقتصادية، فيشرع الحكام الجدد الذين جاؤوا على ظهر الدبابات في الاستدانة الخارجية لتمويل برامج “الإنقاذ” المزعومة. وفي مقابل الحصول على قروض دولية تُقدّم تنازلات للدول الدائنة، في شكل امتيازات خاصة تحظى بها كبريات الشركات العالمية، التي تقوم بدورها باستنزاف الثروات الطبيعية مقابل عمولات أو تحويلات لفائدة كبار قادة الجيش والدولة، لتدخل البلاد في دورة جديدة من الفساد تؤدي إلى انقلاب مجموعة أخرى من الضباط.

والثابت الوحيد وسط تلك المتغيرات هو معاناة الشعوب مع المديونية الخارجية والتضخم المؤدي إلى غلاء الأسعار، والبطالة والفقر والأمراض الفتاكة والجفاف بالنسبة لدول الساحل والصحراء، والأمية الوظيفية واستفحال الفساد والزبونية وغياب دولة الحق والقانون. وتلك هي المكونات الأساسية في صناعة القنابل الموقوتة ليس للإرهاب والتطرف فحسب، ولكن أيضاً للاتجار بالبشر والهجرة السرية وتهريب المخدرات وتجارة السلاح. والخطير أنّه مع مرور الوقت تشكلت تحالفات نفعية بين شبكات الجريمة المنظمة والجماعات المتطرفة والحركات الانفصالية تلتقي حول هدف إضعاف الدولة المركزية، فازدادت المعادلة تعقيداً بحيث يصعب أحيانا تفكيك شيفرتها وبالأحرى حلّ معضلتها.

الدول الأوربية تأكل مع الذئب وتبكي مع الغنم

تقع على عاتق القوى الاستعمارية السابقة والقوى العظمى بصفة عامة مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه الدول الإفريقية وخاصة تلك التي انهارت أو أوشكت على الانهيار، ذلك بأن الهشاشة التي تعانيها تعود في جزء كبير منها إلى الاستنزاف الذي تعرضت له ثرواتها الطبيعية والمعدنية دون أن يكون لها وقع على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة بسبب التواطؤ بين كبريات الشركات العالمية والأنظمة العسكرية وغير الديمقراطية التي اغتنت على حساب شعوبها.

ولم تكتف الدول الكبرى بذلك بل ساهمت بشكل مباشر في هدر ما تبقى من العائدات المالية الناتجة عن تصدير المواد الخام في شراء الأسلحة التي لا تنتج عنها أي تنمية بل تساهم في رفع درجات التوتر محليا وإقليمياً. ويكفينا أن نعلم مثلاً بأنّ القارة الإفريقية استوردت سنة 2019 لوحدها، وحسب معهد ستوكهولم للسلام، أزيد من 43 مليار دولار من الأسلحة، ولنا أن تتصور كم عدد المستشفيات والجامعات والبنيات التحتية من طرق وسكك حديدية وكم من مصانع وكم من مزارع وضيعات ومشاريع للري، كان بالإمكان إنجازها بهذا الغلاف المالي المخصص للأسلحة في سنة واحدة، ولنا ان نتخيل ما يمكن فعله بتلك الميزانية خلال عشر سنوات!

وفي نفس السياق دائماً، نجد انّ القروض التي تقدمها الدول الكبرى للدول الإفريقية بشكل مباشر أو عن طريق البنك الدولي، تنتج عنها فوائد ضخمة لخدمة الديون التي تقدم بشروط مجحفة تؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاك اقتصاديات تلك الدول بدل تنميتها، لتدخل في دوامة إعادة الجدولة أو التنازل عن بعض قراراتها السيادية على شكل حقوق خاصة لاستغلال المناجم المعدنية، وحقول الطاقة وتفويت حقوق تدبير الموانئ والمطارات، وغيرها من الامتيازات.

والحصيلة أنّ الدول تقترض لتسدّد العجز في الميزانية وليس للاستثمار، وتقترض لشراء السلاح وتغطية نفقات الجيوش التي فشلت في أول امتحان لها أمام الجماعات المتطرفة، وتساقطت ثكناتها كما رأينا في مالي كقلاع من ورق. والأدهى من ذلك أن جزء من تلك القروض تصب في الحسابات الخاصة لكبار المسؤولين بسبب الفساد المستشري في الإدارات، ويمكن أن نستحضر مثال موبوتو سيسي سيكو الذي قدرت ثروته بعد الانقلاب عليه وهروبه للخارج ما بين 4 إلى 10 مليارات دولار، وهي نفس قيمة الدين الخارجي لجمهورية الزايير سابقاً، الكونغو الديمقراطية حالياً، التي حكمها 32 سنة بقبضة من حديد، ويا لها من صدفة في الأرقام!

لا شك أنّ الديمقراطيات الغربية تتحمل مسؤولية ثقيلة في تلك الجرائم ضد الشعوب بدءً بتوفير المظلة والملاذ الآمن للحكام الفاسدين الذين أفقروا شعوبهم، وانتهاء باستقبال تلك الثروات في البنوك الغربية تحت ذريعة السر البنكي.. وبعد ذلك تتباكى تلك الدول الغربية على الهجرة غير النظامية وتفريخ شبكات تهريب المخدرات عبر إفريقيا، وعلى بقية التهديدات الأمنية العابرة للحدود والقارات، ويصدق في ذلك على الدول الأوربية المثل القائل: تأكل مع الذئب وتبكي مع الغنم.

الحاجة إلى مشروع “مارشال” جديد في إفريقيا لمواجهة التطرف

وفوق كل ذلك، لم تكلف الدول الكبرى نفسها عناء المساهمة في استقرار تلك الدول عبر المساهمة في التنمية المستدامة، أحد صمامات الأمان ضد مختلف التهديدات الأمنية، فنجد على سبيل المثال أن الاستثمارات الخارجية في إفريقيا لا تتجاوز نسبة 1% من القيمة الإجمالية للاستثمارات الأوربية خارج أوربا والتي بلغت قيمتها التراكمية عند متم سنة 2017 حوالي 7412 مليار أورو أو ما يعادل 8672 مليار دولار حسب تقرير المعهد الأوربي للإحصاء “أوروشطات”.

وإذا لم يستطع الأوربيون والدول العظمى أن يفرضوا حضراً على تجارة السلاح نحو الدول الفقيرة والتي تعاني من الهشاشة، فعلى الأقل كان بإمكانهم أن يفرضوا ضريبة على مبيعاتهم من السلاح نحو الدول الفقيرة، ليتم توجيهها نحو صندوق لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو لتمويل مشاريع تنموية في إفريقيا لتحصين شبابها من الوقوع بين فكي الإرهاب والجريمة المنظمة. أمام هذا الواقع يحق لنا أن نتساءل عن مدى جدية الأوربيين والدول الكبرى عموما في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه.

وبما أنّ المصائب تأتي مجتمعة، فمن المتوقع أن تكون لتداعيات الاحتباس الحراري في المستقبل القريب انعكاسات كارثية على الوضع الأمني بسبب موجات جديدة من الهجرة غير النظامية ستعرفها المناطق الجافة باتجاه الأراضي الصالحة للرعي والتي تتوفّر على الماء والكلأ، وهو ما سيؤدي إلى نشوب دورة جديدة من النزاعات القبلية والإثنية ستزيد من متاعب القارة السمراء والعالم.

وبالنظر إلى كل العوامل التي ذكرنا آنفاً، يمكن القول أنّ الآليات الكلاسيكية للرد على التهديدات الأمنية والحفاظ على السلام لم تعد تساير التطورات الميدانية المتسارعة لأشكال الإرهاب وأسبابه وطرق اشتغاله وسرعة تحركاته وقدرته على التخفي والذوبان بين الساكنة، وانفتاحه على التكنولوجيات الحديثة، وتقاطعاته مع مختلف شبكات الجريمة المنظمة. كما أنّ متابعة الميكانزمات الدولية في بلد مثل مالي مثلاً، أظهرت أنها أدوات غارقة في المساطر البيروقراطية، وينقصها التنسيق والفعالية والمرونة في الحركة وإعادة الانتشار، كما انها تعاني من نقص مزمن في التمويل بسبب تنصل العديد من الدول المانحة من التزاماتها، وأبرز مثال على ذلك ما وقع في مؤتمر “لا سيل سان كلو” في فرنسا سنة 2017 والذي تعهدت فيه الولايات المتحدة ودول الخليج على تقديم حوالي 190 مليون دولار لدول الساحل الخمس، ورغم أنّ المبلغ كان زهيداً مقارنة مثلا مع الأرقام الفلكية لنفقات الولايات المتحدة في أفغانستان، إلا أنّ تلك الدول لم توف بما تعهدت به.

لذلك كلّه أصبح ضرورياً ومستعجلاً ابتكار نموذج جديد في معالجة التهديدات الأمنية الشاملة، بآليات جديدة ومبتكرة تشمل الجوانب القانونية والسياسية والفكرية والعقائدية، والمالية والأمنية والعمليّاتية، تكون قادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمعات الإفريقية. وتعد المقاربة المغربية بهذا الصدد جديرة بالدراسة والتطوير، حيث تعتمد على ثلاثة ركائز في التعاطي مع ظاهرة التطرف، وهي: البعد الأمني الاستخباراتي، والبعد الفكري العقدي، ثم البعد التنموي الإدماجي.

وفي غياب ذلك ستلجأ الدول المستهدفة بظاهرة الإرهاب إلى حلول متسرعة قد تشكل لاحقاً خطراً على السلم العالمي، ويمكننا أن نتلمس ذلك في استدعاء السلطة في باماكو للمرتزقة الروس من جهة، واستدعاء الساكنة لجماعات الدفاع الذاتي من جهة أخرى، وهي مجازفة ستكون لها عواقب وخيمة على المدى المتوسط والبعيد. /

* خبير في القضايا الدولية والاستراتيجية

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي