في أصل القطيعة الثانية للعلاقات بين أكبر بلدين مغاربيين المغرب والجزائر، يوجد نزاع يعد من أقدم النزاعات بين الدول المتجاورة في العالم. وتعود أسبابه العميقة إلى عوامل يتداخل فيها التاريخي بالجغرافي بالسياسي، وتستخدم فيه الأدوات السياسية والإعلامية والمالية والعسكرية والمخابراتية، في حرب باردة استغرقت طويلا جدا وتستنزف مقدراتهما معا. ويبدو أن هذه الحرب الباردة التي قاربت الخمسة عقود بين البلدين، ستبقى مستمرة لسنوات أخرى طويلة قادمة، في ظل غياب تام لأي مؤشرات على وجود نية في تجاوزها.
وفي سياق ذلك، يبقى الأمل كل الأمل لدى الشعبين المغربي والجزائري وعموم شعوب المنطقة، على الأقل، في ألا ينزلق الوضع البالغ التوتر على الجبهات التي تنام على برميل بارود مرعب، إلى مواجهة عسكرية مدمرة لن يخرج منها أحد منتصرا، بالنظر إلى تقارب ميزان القوى العسكري بين البلدين.
إعلان القطيعة الثانية
في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، نظم رئيس الديبلوماسية الجزائرية رمطان العمامرة ندوة صحفية مطولة، خصصها لإعلان قطع بلاده علاقاتها مع الجارة الغربية المغرب. وتعد هذه القطيعة الثانية في تاريخ البلدين خلال قرابة ستة عقود، أي منذ استقلال الجزائر في العام 1962. فقد كانت القطيعة الأولى في العام 1976 بمبادرة من المغرب، بسبب إعلان الجزائر تبني مشروع جبهة البوليساريو الداعي إلى انفصال الصحراء الغربية، التي كانت إسبانيا قد انسحبت منها واسترجعها المغرب.
لكن إذا كان المبرر المغربي لقطع العلاقات مع الجزائر قبل 45 عاما واحدا وواضحا، فإن المبررات الجزائرية للقطيعة الثانية في تاريخ العلاقات بين البلدين كانت كثيرة وغامضة، بحيث استغرق عرضها من طرف العمامرة قرابة الساعتين. فالجزائر تؤاخذ على المغرب قائمة طويلة لما تعتبرها “أعمالا عدائية” لا تتوقف، بينما التزم المغرب لهجة مهادنة معتبرا أن القرار الجزائري كان “متوقعا” ومعربا عن “أسفه” لاتخاذه ومفندا ادعاءات الحكومة الجزائرية.
والواقع أن وجهتي النظر بين ديبلوماسيتي البلدين متباينة جدا حد التضارب، وهو الأمر الذي انعكس بالضرورة حتى على النخب الجزائرية والمغربية. فمن وجهة النظر المغربية ليس التبريرات الجزائرية مفهومة ولا مستساغة. فمن يصدق أن المغرب لم يعد له من شغل حتى يتفرغ لإشعال حرائق بغابات الجزائر؟ وأية مصلحة له في أن تزيد الأوضاع المضطربة أصلا بما يكفي في جارته الشرقية توترا؟ إذا كانت الجزائر جادة ‒كما أعلنت‒ في استئصال “الإرهاب”، لماذا لم تقطع علاقاتها مع فرنسا وإنجلترا اللتين تأويان مسؤولي وأنصار حركتَي الـ “ماك” المطالبة بانفصال القبايل، و”رشاد” الإخوانية” المطالبة بـ “دولة مدنية لا عسكرية”.. وهما المنظمتان اللتان أعلنتهما “إرهابيتان” في مايو الماضي وتتهم المغرب بدعمهما، بل وتتهمهما بإحراق غابات القبايل واغتيال الناشط الشاب جمال بن إسماعيل لحساب المغرب وإسرائيل؟
ثم إذا كانت الجزائر جادة في إعلان موقفها “المبدئي” المناهض لكل من يعترف بإسرائيل إلى هذا الحد، لماذا لا تمتلك الجرأة نفسها مع خمس دول عربية أخرى (السودان، ومصر، والأردن، والبحرين، والإمارات)، تعترف بها وتحتضن سفارات إسرائيلية في عواصمها؟ ولماذا لا تقطع الجزائر علاقاتها أيضا مع 40 دولة إفريقية تعترف بإسرائيل؟ بل لماذا لا تنسحب من الاتحاد الإفريقي بعد قبوله عضوية إسرائيل بصفة “عضو مراقب”؟
ورغم أن الجزائر قررت في أعقاب القطيعة عدم تجديد عقد استغلال أنبوب الغاز الأوروبي-المغاربي، الممتد من الجزائر نحو إسبانيا والبرتغال مرورا بالمغرب والذي ينتهي أواخر الشهر القادم، إلا أن الإبقاء على قنصليات البلدين مفتوحة رغم إغلاق السفارتين في الرباط والجزائر، يمكن اعتباره محافظة على شعرة معاوية بين الأخوين اللدودين. ويمكن أن نقرأ في الأمرين معا محاولة جزائرية للضغط السياسي على المغرب، بهدف الدفع به إلى التراجع.
ويؤكد وجهة النظر هذه الباحث الجامعي والصحفي الجزائري عبد النور تومي، المتخصص في شؤون شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام)، الذي يرى في مقال رأي نشره قبل أيام، بأن “الغاز يبقى الورقة الرابحة الأهم في يد النظام الجزائري، حيث يمكن للجزائر الضغط على المغرب عبر فرض شروط تعاقدية جديدة لتسويق كميات من الغاز، تصل إلى مليار متر مكعب سنويا، بالنظر لإمكانية تلبية حاجات إسبانيا والبرتغال من الغاز الجزائري عبر خط أنابيب (ميدغاز). وهو ما يعني أن المغرب سيفقد ميزة حقوق العبور، وسيكون ملزما بالشراء وفق شروط جديدة تفرضها الجزائر، وبمنطق السوق الذي ارتفعت أسعاره أضعافا مضاعفة”.
لكن العارف بأحوال البلدين يدرك دون شك أن إغلاق أنبوب الغاز إياه، لن يكون كافيا للضغط بالقدر المطلوب على المغرب. وبالتالي فإن القطيعة ستظل قائمة.
جِوار صعب ومضطرب
من خلال استعراض الحيثيات التي ذكرها العمامرة لتبرير قطع بلاده علاقاتها مع المغرب، نجد خلافات سياسية ومحطات تاريخية مرت على بعضها أكثر من نصف قرن، أي منذ استقلال الجزائر. وهو في ذلك يلتقي مع المؤسسة العسكرية التي اتهمت المغرب في افتتاحية عدد مجلتها (تحمل اسم “الجيش”) للشهر الماضي، بـ “خيانة الجزائر منذ العام 104 قبل الميلاد، عندما قام بوخوس ملك موريتانيا الطنجية (يُفترض أنها المغرب الحالي) بتسليم يوغرطة ملك نوميديا (يفترض أنها الجزائر الحالية) إلى روما لتقتله”!
بدأت قصة النزاع الجزائري المغربي– في الواقع–منذ بدايات العهد الاستعماري الفرنسي الذي بقي في الجزائر لـ 132 عاما (من 1830 حتى 1962). فبعد تقهقر المقاومة الجزائرية ومعها مغاربة أمام الآلة الحربية الفرنسية، اضطر زعيمها الأمير عبد القادر إلى اللجوء للمغرب، وشرع في شن حرب عصابات ضد الفرنسيين. وبسبب دعمه للمقاومة الجزائرية، دخل المغرب في معركة إيسلي في 1844 ضد الفرنسيين، وانهزم فيها هزيمة كان لها ما بعدها. وهو ما اضطره إلى التخلي مكرها عن المقاومين في نهاية المطاف. وشكل ذلك منطلق العداء الجزائري للمغرب، حيث اعتبرت أنه “خان” مقاوميها، بينما كان المقاومون قلة وغالبية القبائل الجزائرية انتهت إلى موالاة المحتل الفرنسي.
مع احتلال الجزائر، لم يكن هناك أي رسم للحدود بشكل دقيق وكامل مع المغرب، إذ لم تكن فرنسا معنية بترسيم حدود “الجزائر الفرنسية” مع جيرانها إلا بعد اكتشافها للنفط ولمناجم الحديد في المناطق الحدودية مع المغرب. حينها فقط أعادت السلطات الفرنسية ترسيم الحدود بضمها كلا من منطقة “حاسي بيضا” و”بشار” بأقصى الجنوب الشرقي للمغرب ضمن “المقاطعة الفرنسية” للجزائر آنذاك.
وبعد استقلال الجزائر سنة 1962، طالب المغرب باسترجاع المنطقتين بالإضافة إلى مناطق أخرى كانت تعود لمغرب ما قبل الاستعمار الفرنسي، مستندا في ذلك إلى وثائق تاريخية. لكن الجزائر المستقلة رفضت ودعت إلى عدم المساس بالحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي. وانتهى الرفض الجزائري مع الإصرار المغربي إلى اندلاع حرب ضروس في أكتوبر 1963، سميت بـ “حرب الرمال”، وقد تكبد فيها الطرفان خسائر مادية وبشرية كبيرة، لتنتهي هذه الحرب “السوداء في تاريخ البلدين” بتدخل منظمة الوحدة الأفريقية، التي أرست وقفا لإطلاق النار بينهما في 20 فبراير 1964.
بعد ذلك استغرقت المفاوضات بين البلدين زمنا طويلا، قبل أن يوقع الرئيس الجزائري هواري بومدين والعاهل المغربي السابق الحسن الثاني، على اتفاقية لتقسيم الحدود بين البلدين في 15 يوليو 1972. إلا أنها لم تنه الخلافات حول الحدود وحالة العداء، إذ بعد إعلان تكوين جبهة البوليساريو سنة 1973، التي دعت إلى انفصال “الصحراء الغربية”، قامت الجزائر وليبيا بدعم الجبهة عسكريا وماليا في قتالها ضد القوات المغربية في السبعينيات الثمانينيات. ونتج عن ذلك قطع المغرب لعلاقاته لأول مرة مع الجزائر في 1976.
وبعد دحره لقوات البوليساريو بعد عناء في عام 1980، أقام الجيش المغربي جدارا أمنيا استغرق تشييده 7 سنوات ليمتد على طول الحدود الجنوبية بين البلدين الجارين (يمتد على حوالي 3000 كلم). وانطلاقا من هذه المرحلة، انتقل الصراع بين البلدين من المواجهة الحربية المباشرة وغير المباشرة، إلى المعترك الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والمخابراتي والإعلامي، بل وحتى الديني. وبالنتيجة أصبح تصادم ممثلي المغرب والجزائر، في كل محفل عربي أو إفريقي أو دولي يجمعهم، شيئا مألوفا.
خلال اجتماع دول عدم الانحياز يومي 13 و14 يوليو الماضي، دعا السفير المغربي في الأمم المتحدة عمر هلال إلى “استقلال شعب القبائل” عن الجزائر، ردا على إعلان وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، عن دعم بلاده الدائم لحق تقرير مصير “الشعب الصحراوي”. ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تدعم الديبلوماسية المغربية قضية القبايل، ردا على تبني الجزائر لـ “القضية الصحراوية”، إلا أن الأمر اختلف هذه المرة بسبب التطورات الجسيمة التي تمر منها الجزائر، منذ استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. فقد استدعت الجزائر سفيرها احتجاجا، في 18 يوليو الماضي وطلبت “توضيحات” من المغرب، متوعدة إياه بأنها ستراجع علاقاتها معه. وبالفعل في 24 اغسطس 2021، أعلن وزير الخارجية الجزائري قطع بلاده علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، بسبب “الأعمال العدائية” للمملكة ضدها.
هل المصالحة ممكنة؟
في حساب ردود الفعل الإقليمية والدولية على القطيعة، سجلنا تفاعلا ضعيفا حتى لا نقول منعدم الأثر والتأثير. فعربيا دعت كل من السعودية والبحرين الطرفين إلى “ضبط النفس وعدم التصعيد وتغليب الحوار لحل الخلافات”، بينما طالبت ليبيا بعقد اجتماع لأعضاء اتحاد المغرب العربي وهي المنظمة الإقليمية التي ينتمي إليها طرفا الأزمة. بينما دوليا اكتفت فرنسا ومعها كل من الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والأمم المتحدة، بدعوة الجانبين إلى” تغليب لغة الحوار”. وخارج لغة تسجيل المواقف لرفع العتب هذه، لا شيء.
والآن وقد بلغ التوتر بين البلدين مداه بقطع العلاقات، الذي يعتبر في الأعراف الديبلوماسية شكلا من أشكال إعلان الحرب، يطرح الموقف سؤالا حارقا: هل ما تزال المصالحة ممكنة؟ وهل يمكن نزع فتيل التوتر أو على الأقل وقف تدهور الأوضاع بين الطرفين؟
على الرغم من أنه لم يُعلن رسميا حتى الساعة عن قيام أية وساطة عربية أو غيرها، لحلحلة الأزمة بين الجزائر والمغرب، إلا أن دولا عربية عدة بينها موريتانيا وقطر ومصر والسعودية قد أعلنت قيامها بخطوات ربما يمكن اعتبارها مقدمات لوساطات قد تقودها بعض تلك الدول لاحقا في هذا الشأن. على الأقل إذا لم تكن المصالحة صعبة جدا ومعقدة بسبب واقع التنافر السياسي المزمن القائم بين نظامي البلدين، وخصوصا ما كان من غياب مناخ الثقة المزمن وتضارب المصالح بينهما، فإنها بالمقابل ليست مستحيلة تماما. ولفهم التعقيدات التي يطرحها إنهاء القطيعة الثاني بين البلدين، سيكون علينا العودة إلى تاريخ القطيعة الأولى.
لقد استغرقت القطيعة الأولى بين البلدين من 1976 حتى 1988، يمكن تقسيمها إلى مرحلتين. الأولى امتدت لثلاث سنوات من 1976 وحتى وفاة الرئيس الهواري بومدين في يناير 1979، واتسمت خلالها العلاقات بين الجزائر والمغرب بالتوتر الشديد إلى درجة أن جيشيهما تقابلا أكثر من مرة في معارك بمنطقة أمغالا بالصحراء المغربية.
أما المرحلة الثانية فقد امتدت لتسع سنوات، منذ خلافة الشاذلي بن جديد لبومدين في مطلع 1979 وحتى عودة العلاقات في 16 مايو 1988. وهنا لا بد من التذكير بأن المغرب استقبل بارتياح تولي العقيد ابن جديد للرئاسة في الجزائر، حيث انتعشت الآمال بقرب انتهاء القطيعة. وبالفعل التقى العاهل الحسن الثاني رسميا الرئيس بن جديد في العقيد لطفي، وهي بلدة حدودية صغيرة على الجانب الجزائري من الحدود مع المغرب. وقد التقيا مرتين الأولى في 26 فبراير 1983، والثانية في 24 مايو 1987.
وتم هذا اللقاء الثاني بوساطة سعودية برعاية الملك فهد بن عبد العزيز. وفي أعقاب ذلك عرفت العلاقات الثنائية بين البلدين انفراجا أدى إلى عودة السفيرين وفتح الحدود البرية بين الجزائر والمغرب. وتوج مسلسل المصالحة باحتضان الجزائر لقمة زرالدة في يونيو 1988، ثم احتضان المغرب لقمة مراكش التي انعقدت بتاريخ 17 فبراير 1989، وشهدت إعلان ميلاد الاتحاد المغاربي.
ينبغي الاعتراف بأنه لولا الوساطة السعودية لما أمكن تقريب وجهتي النظر بين قيادتي البلدين حينها. لكن الأوضاع تغيرت، ولم يعد للسعودية الثقل العربي الذي كان، كما أنها مشغولة حاليا بحرب اليمن وبترتيبات “تحديث” الدولة التي يباشرها منذ سنوات ولي العهد محمد بن سلمان.
كما أن الجزائر تعيش حاليا أوضاعا داخلية غير مستقرة، منذ استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، تجعل موضوع العلاقات مع المغرب شائكا جدا. وخلاصة القول إن الرئيس الحالي عبد المجيد تبون ليس هو العقيد الراحل الشاذلي بن جديد، والمحيط العربي الذي كان يمكن له أن يلعب دور الوساطة بفعالية لم يعد هو نفسه. ولذلك نختم على السؤال الذي يشغل بال الجميع في المنطقة المغاربية وخارجها: لقد استغرقت القطيعة الأولى بين الجزائر والمغرب 12 عاما، إلى أن سمحت لها ظروف داخلية وخارجية مواتية بأن تنتهي على خير في 1988.. فكم يا ترى ستستغرق هذه القطيعة الثانية بين البلدين؟
جوار صعب وتاريخ مضطرب

تعليقات ( 0 )