الأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية قال: “سيأتي اليوم الذي ستتوقف فيه الدولة عن التوظيف بصفة نهائية”
في سياق الجدل حول المعايير الجديدة في التوظيفات الخاصة بقطاع التعليم العمومي، يرى الدكتور إبراهيم المراكشي، الأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة في هذا الحوار أن القرار يمثل محطة من بين محطات أخرى قادمة، ضمن استراتيجية بعيدة المدى تروم التقليص من أعداد الموظفين، متوقعا ألا يتم التراجع عنه لأسباب يعددها.
وأعلن الدكتور إبراهيم المراكشي أن الدولة ستتوقف في يوم ما عن التوظيف بصفة نهائية، ليحل محله نظام التعاقد. في أفق أن تسلم المشعل للقطاع الخاص لينوب عن القطاع العام في تأمين جملة من الخدمات الاستراتيجية كالتعليم والصحة والطاقة والمحروقات. وهذا ما يفسره بنية الدولة في الابقاء على الفقر وعلى التفاوتات الطبقية والمجالية الصارخة.
ما هي الأبعاد المتحكمة في قرار وزير التربية الوطنية بخصوص هذه المعايير الجديدة؟ وكيف تتوقعون نهاية هذا الجدل؟
سنبدأ بالإجابة عن السؤال الأخير، لأنه المفتاح لفهم أبعاد السؤال الأول. النهاية لها عدة أبعاد، وستثير جملة من القضايا الشائكة. الأمر أبعد بكثير من مجرد رقم أو سن معين. إن لهذا القرار أبعادا أخرى بعيدة المدى.
شخصيا أتوقع ألا يتم التراجع عن هذا القرار، أولا لأن الحكومة لا ترغب في أن تكشف عن ضعفها، لأنها إن تراجعت اليوم ستفتح على نفسها بابا لن تتمكن من إغلاقه، ثم ثانيا، هذا احتمال غير وارد بالنظر لطبيعة شخصية القائم على الوزارة، المعروف عنه حينما كان وزيرا للداخلية إمساكه للملفات بقبضة من حديد. وثالثا وأخيرا، وهذا هو الأهم، هو أن هذا القرار يمثل محطة من بين محطات أخرى قادمة، ضمن استراتيجية بعيدة المدى تروم التقليص من أعداد الموظفين، وذلك بهدف التقليص من كتلة الأجور. وتعد هذه النقطة من بين المطالب الأكثر إلحاحا للمؤسسات النقدية الدولية، والتي تعتبرها مدخلا أساسيا لإنجاح “الإصلاح” الإداري بالمغرب؛ بل أكثر من هذا أتوقع أن يتم تعميم المعايير الجديدة للتوظيف في قطاع التعليم على مباريات ولوج باقي القطاعات العمومية. من هذه الزاوية يمكن اعتبار هذا القرار كبالون اختبار.
وعلى العموم، فالوظيفة العمومية بالشكل المتعارف عليه اليوم في طريقها، على المدى المتوسط، نحو الانقراض، وستعوض كلية بنظام التعاقد الذي شرعت الدولة في اعتماده بالتدريج منذ سنوات مضت، وقاعدته آخذة في الاتساع، وذلك وفق الاحتياجات الضرورية للإدارة العمومية، أي أن المناصب التي سترى النور مستقبلا، ستخلق وفق الحاجيات الملحة للدولة، في إطار ما يمكن أن يصطلح عليه بدولة الخدمات في حدودها الدنيا، أي أن الدولة ستلتزم مع المواطن بتوفير أقل ما يمكن من الخدمات، مع تسليم المشعل للقطاع الخاص ليقوم بالحلول محلها، خاصة في الخدمات الصحية والتعليمية، وغيرها. وأخص بالذكر هذه القطاعات تحديدا لأنها هي التي تمتص حصة الأسد من ميزانية الدولة، وذلك في انسجام تام مع استراتيجيتها الرامية إلى التقليص من النفقات العمومية. الغريب في الأمر أن مسألة ترشيد هذه النفقات لا نجدها في قاموس الحكومات المغربية المتعاقبة، ولا أقصد فقط الحكومة الحالية.
هذه المعطيات ينبغي أن يستوعبها خريج جامعة الأمس والطالب الجامعي اليوم، الذي له أحلام وردية وطموحات في ولوج أسلاك الوظيفة العمومية. الدولة رفعت يدها عن ملف التشغيل، واعتبرت نفسها غير ملزمة بتشغيل خريجي الجامعات، خصوصا ذات الاستقطاب المفتوح، ضمن أسلاكها. إذا أخدنا بعين الاعتبار هذه الجوانب، نفهم سبب إسقاط وزارة التشغيل من بنية الحكومة.
باختصار الدولة سلمت ملف التشغيل للقطاع الخاص. وما على خريج الجامعة اليوم، وغدا، سوى أن يبحث عن عمل من خارج دائرة القطاع العام. سيأتي اليوم الذي ستتوقف فيه الدولة عن التوظيف بصفة نهائية، ليحل محله نظام التعاقد. الوظيفة العمومية اليوم عبارة عن هرم أخذت قاعدته تضيق تدريجيا، وأتوقع خلال عشر سنوات فقط أن نشهد اليوم الذي سنصل فيه إلى قمة الهرم. في اعتقادي هذا توجه خاطئ من جانب الدولة.
– لماذا في اعتقادكم؟
لقد أثبتت التجربة أن القطاع العام هو قاطرة التنمية، إذ لم يسبق لدولة أن خرجت من دائرة التخلف بفضل القطاع الخاص.
القطاع العام هو من يقوم بذلك، هو الذي يشيد، وهو الذي يدبر جملة من القطاعات الحيوية. وحينما تصل ثمار التنمية إلى جميع المناطق، يسلم المشعل للقطاع الخاص، مع بقاء القطاع العام قويا، لأنه إن ضعف يتغول القطاع الخاص.
وأما والقطاع العام ضعيف ويعاني جملة من الاختلالات، ويسلم المشعل للقطاع الخاص لينوب عنه في تأمين جملة من الخدمات الاستراتيجية كالتعليم والصحة والطاقة والمحروقات، فهذا لا يمكن تفسيره سوى بنية الدولة في الإبقاء على الفقر وعلى التفاوتات الطبقية والمجالية الصارخة.
إن الحكومة بتبنيها لهذا القرار تدفع تلميذ اليوم إلى التوجه نحو مراكز التكوين المهني والمعاهد التطبيقية، وسيفكر ألف مرة قبل أن يلج الجامعة مادامت آفاق الوظيفة العمومية تتقلص تدريجيا. الدولة لا تريد نموذجا كالنموذج الكوري الجنوبي، حيث القاعدة المجتمعية مكونة اساسا من الأساتذة والأطباء والمهندسين، وغالبية المواطنين حاصلين على الإجازة، الدولة غير راغبة في هذا النموذج، إنها تريد أن يقود قاطرة “التنمية” من منظورها أقلية من أصحاب التعليم العالي المتخصص، أما البقية فهم من ذوي التعليم المتواضع أو المهني الموجه للمهن التقنية والحرفية. أعتقد أن هذا السياق مهم من أجل إعادة قراءة هذه المعايير الجديدة لولوج مهنة التعليم من منظور آخر.
ماذا تقترحون بدلا من ذلك لتجاوز هذه الأعطاب؟
الحل في الجامعة وفي إصلاح منطومة التعليم ككل، والغريب أن في هذا الباب فشلت جميع الحكومات المتعاقبة.
في اعتقادي على السيد وزير التربية الوطنية، عوض أن يعمل على تطبيق هذه المعايير الجديدة في التوظيفات الخاصة بقطاع التعليم العمومي، فقد كان من الأجدر به أن يقوم، رفقة وزير التعليم العالي، بتطهير جميع المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها ومستوياتها، وليس فقط الجامعات، والتي تزخر بالعديد من الكفاءات الغيورة على هذا القطاع، نقول تطهيرها من هذه الشوائب. لأن الطالب الذي يصل إلى الجامعة بمستوى ضعيف، جرى تشكيله وصناعة شخصيته خلال المرحلة الابتدائية والاعدادية، وأن هذا الضعف مسار تراكمي يمتد على عدة سنوات ومستويات تعليمية.
ينبغي ملاءمة التكوين بالجامعة بحاجيات ومتطلبات وشروط القطاع الخاص، وأن ينمي قدرات الطالب َمهاراته حتى تستجيب لتلك الشروط. بكل صراحة المعايير التي اعتمدها وزير التربية الوطنية وأقرها تناسب مجتمعا آخر، لا المجتمع المغربي، مجتمعا آخر فيه تعليم عمومي موحد متطور، يقوم على تكافؤ الفرص، ويشجع على تطوير الكفاءات وليس فقط على الحفظ والاستظهار، وعلى جامعة قوية ونظيفة تشجع على إبراز المواهب وعلى البحث العلمي، والنجاح في مدرجاتها مبني فقط على الجدارة والاستحقاق، وليس جامعة تتحول أسوارها إلى سجن تخنق الطالب وتصيبه بالاكتئاب… جامعاتنا حبلى بالكفاءات، ما تحتاجه هو إصلاح حقيقي يساعد على تفجير هذه الطاقات.

تعليقات ( 0 )