في زمن القرية المُعَولمة، ينقسم “جمهور” الحروب عبر العالم إلى فئات عدة متباينة. فهناك من يتابع تطور الحرب ساعة بساعة ويوما بيوم، كما يتابع عشاق الرياضة بطولة العالم. يحصي القتلى والأضرار ويحفظ أسماء المدن والزعماء وتطورات المعارك، حتى يجد زادا يخوض به نقاشاته مع الآخرين. وهناك من يتابع مجرياتها من باب ارتباطه العاطفي القومي أو الديني بأحد طرفي الحرب. ثم هناك من يتابعها بدافع “مهني“، كالإعلاميين والخبراء العسكريون والاقتصاديون والساسة؛ ولكل منهم اهتماماته ونظرته إلى الحرب.
وتأسيسا على ذلك، ما يهمنا في هذا المقام هو التوقف عند الجانب العسكري الصرف في الحرب الروسية–الأوكرانية الجارية منذ أسبوع. وتحديدا منه ما تعلق بكونها –كأية حرب– تمثل ما يسميه خبراء الشؤون العسكرية “دراسة حالة على أرض الواقع“. بمعنى أوضح، ساحة واقعية لتجريب مدى فعالية أنواع معينة من السلاح المستعمل فيها، لتقييم نقاط قوته ونقاط ضعفه. ومن خلال ذلك محاولة القياس عليه الحكم (ولو بشكل تقريبي)، على ميزان القوى العسكري القائم بين المغرب والجزائر.
لعبت الحرب في سوريا دورا محوريا في زيادة الطلب على الأسلحة الروسية. فقد استغلت موسكو هذه الحرب واستخدمت الأراضي السورية كقاعدة للترويج لأسلحتها وتجربة الحديث والمتطور منها. ونتيجة لذلك، سجلت الإحصائيات الرسمية الروسية أواخر 2016 تزايدا ملحوظا في الطلب على الأسلحة الروسية، حتى إنه بلغ أعلى مستوى له منذ عام 1992، حيث تم التوقيع على عقود لتصدير الأسلحة بقيمة تجاوزت 26 مليار دولار. في حين لم تتجاوز مبيعاتها من السلاح عام 2013 و2014 مبلغ 10,3 مليارات دولار. بينما باعت الـ9 أكبر شركات روسية للسلاح في العام 2019 صادرات بقيمة 28,2 مليار دولار.
وينطبق الوضع نفسه على الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها من كبار مصدري السلاح في العالم.
الحرب “فرصة” للتسويق
خلال ترؤسه لاجتماع لجنة “التعاون العسكري التقني مع الدول الأجنبية”، يوم الخميس 9 أبريل 2020، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن “الاختبار العملي الناجح للسلاح الروسي في الخارج، وخاصة في سوريا قد أكد فعاليته”. وأضاف قائلا: “حصلنا على خبرة في استخدام الأسلحة الجديدة في سوريا. فالتجربة الناجحة التي اكتسبناها في استخدام الأسلحة الجديدة أثبتت فعاليتها في سوريا خلال الحرب لمصلحتنا”. واعتبر بوتين بأن الزيادة الحاصلة في حجم صادرات الأسلحة الروسية إلى دول العالم، رغم المنافسة الشديدة في هذا المجال، “يقف وراءها الاختبار العملي لهذه الأسلحة في سوريا”. وتبعا لذلك، كشف بوتين بأن بلاده قد “نجحت في تنفيذ خططها لتصدير السلاح خلال العام 2019، بنسبة بلغت 102%. وهو ما يشكل زيادة فاقت المتوقع بأكثر من ملياري دولار”، في وقت كانت لديها طلبات على سلاحها تزيد على 55 مليار دولار، لافتا إلى أنها تتعاون في هذا المجال مع نحو مئة دولة حول العالم.
وليس سرا أنه منذ اليوم الأول لتدخلها في سوريا، نهاية سبتمبر 2015، عمدت روسيا إلى استخدام أسلحة جديدة ومتطورة، لاستعراض قدراتها في ساحة الحرب السورية، التي تحولت إلى معرض لتجريب السلاح الروسي، وعرضه على الأسواق العالمية.
فجأت موسكو في الحرب التي شنتها إلى جانب حليفها النظام السوري، إلى تجريب أسلحتها في ميدان قتال حقيقي، إذ استقدمت مقاتلات “SU-55″ و”SU-27” بنية تجريبها في المنطقة، إلى جانب أسلحة أخرى كمنظومتي الدفاع الجوي “بانتاسير”
و”S-400″. وزاد الاهتمام الدولي بأنظمة الدفاع الجوي “S-400” والطلب عليها على الخصوص، بعد مشاركتها في العمليات الروسية في سوريا، خصوصا لحماية قاعدتي طرطوس وحميميم على الساحل السوري.
طبعا ليست روسيا، ولا غيرها من الدول المصنعة الأخرى للسلاح، إلى أراضي خارجية لتجربة أسلحتها، بل يجري الحديث فقط عن الترويج لها من خلال عرضها وإظهار قدراتها على أرض المعركة. فالملاحظ مثلا أن أغلب سلاحها الذي استخدمته خلال تدخلها العسكري في سوريا (2015-2016) ليس جديدا. لكنها من جهة أخرى تقوم باستخدام أسلحة تعتبرها استراتيجية ولا تصدرها لأي جهة خارجية (كصواريخ “كاليبر” التي استخدمتها في سوريا)، في إطار ما يعتبره خبراء روس “الوعيد الروسي” من مغبة توجيه أية ضربة لأهداف روسية.
ويذكر أن روسيا تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في سوق السلاح العالمية، وزيادة الطلب على أسلحتها يمنحها إمكانية الحفاظ على هذه المكانة. وتتوجه صادرات السلاح الروسي بالدرجة الأولى إلى الدول الآسيوية وبلدان رابطة الدول المستقلة التي تشتري 60% منها، بالإضافة إلى نحو 30% تقتنيها الدول الأفريقية (في مقدمتها الجزائر) و5% لدول أمريكا اللاتينية.
ووفقا لتقييمات وسائل الإعلام الروسية، فقد أنفقت موسكو نحو نصف مليار دولار على عمليتها العسكرية في سوريا، بينما بالمقابل على دعاية عسكرية عالمية درت عليها أرباحا تقدر بما بين 6 و7 مليارات دولار.
اهتمام عالمي بالصواريخ الروسية
غير أن السياق الجيوسياسي للحرب الأوكرانية يأتي مختلفا. فالمواجهة تحولت سريعا إلى حرب بالوكالة تخوضها أوكرانيا ليس فحسب دفاعا عن ترابها وعن وجودها، بل تخوضها أيضا نيابة عن “الغرب” من اليابان إلى كندا. ولذاك تجري مراقبة استخدام الصواريخ الباليستية قصيرة المدى عن كثب، كدراسة حالة ميدانية حقيقية، من قبل كل من الصين وكوريا الشمالية ودول أخرى اقتنت أو طورت ترسانات متقدمة، بشكل متزايد من الأسلحة الروسية خلال السنوات الأخيرة. وأيضا من طرف الحكومات الغربية التي ترى روسيا كعدو تحرص على جمع البيانات حول الآثار القتالية للصواريخ التي يستخدمها.
وبالفعل، تشير مجريات الحرب على ضعف استعمال الروس لمقاتلاتهم الجوية ودباباتهم التي أرسلوا منها المئات. لكن بالمقابل، كثفوا من استخدامهم للقوة الصاروخية قصيرة ومتوسطة المدى. فبصفتها وريثة للترسانة الهائلة لصواريخ الاتحاد السوفيتي السابق، تمتلك روسيا أكبر مخزون من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز في العالم.
وفي سياق ذلك، كشف مسؤول أمريكي للصحفيين بأن روسيا أطلقت أكثر من 320 صاروخا بحلول صباح الأحد الماضي على أهداف أوكرانية، معظمها صواريخ بالستية قصيرة المدى. وبحسب تقديرات أمريكية أخرى، أطلقت خلال الساعات الأولى من الهجوم الروسي الأسبوع الماضي، أكثر من 100 صاروخ أُطلق من البر والبحر، معظمها صواريخ باليستية قصيرة المدى وصواريخ كروز وصواريخ أرض-جو. وهو ما حذا بخبراء مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي ومقرها الولايات المتحدة، إلى اعتباره أعنف قصف بصواريخ باليستية قصيرة المدى حدث بين دولتين إقليميتين متجاورتين على الإطلاق. وقالت موسكو في غضون ذلك، إنها أصابت خلال اليومين الأولين من الحرب أكثر من 900 هدف، شملت موانئ ومطارات وبنى عسكرية مدنية وعسكرية أوكرانية، خاصة في العاصمة كييف.
وهو ما قد يحمل عددا من المؤسسات العسكرية في العديد من البلدان، بما في ذلك الصين وكوريا الشمالية، على التفكير في استخدام صواريخ بالستية دقيقة في نزاعاتها المستقبلية. بالمقابل، لا تبدو قدرة الأوكرانيين كبيرة على اعتراض القوى الصاروخية الروسية. فمضاداتهم الجوية متواضعة، إذ المعروف أن كييف لديها منظومات صاروخية مضادة للطائرات روسية الصنع من طراز S-300، تعود إلى حقبة الحرب الباردة. لكن من غير الواضح ما إذا كانت أي منها قد اعترضت الصواريخ الروسية، كما أنه يبدو أن بعضها قد دمرت بفعل الضربات الصاروخية، بحسب تقديرات مراقبين.
ومع ذلك، تذهب التقديرات إلى أن روسيا لم تُظهر بعدجميع قدراتها الجوية والصاروخية، على الأرجح بسبب رغبتها في تقليل الخسائر بين المدنيين الأوكرانيين. ومن المرجح أن تزيد وتيرة موجاتها من الضربات في الأيام المقبلة لتقويض ما تبقى من دفاعات أوكرانيا، بما في ذلك المنظومات المضادة للطائرات التي أسقطت عدة طائرات روسية، وفقا للمعهد الأمريكي لدراسة الحرب.
ترويج لتفوق السلاح الغربي
خلال الأيام الأولى من الحرب، اكتفى الغرب بمهاجمة روسيا بالكلام وإغراق الأوكرانيين في الخطب والمؤتمرات. كانت التوقعات ترى أن الروس سيحكمون قبضتهم على أوكرانيا التي حاصروها من ثلاث جهات، في غضون يومين أو ثلاثة. لكن مع نجاح مقاومة الأوكرانيين المفاجئة في تأخير تقدم آلة الحرب الروسية الهائلة، ومع عدم تمكن الروس من السيطرة على أية مدينة أوكرانية، تحولت لهجة قادة الغرب السياسيين والعسكريين، وأصبحت أكثر حماسا لتقديم دعم مالي وعسكري. فرأينا كيف أنه حتى ألمانيا التي سبق أن عبر مستشارها علانية عن نيتها عدم تقديم أي دعم عسكري، عاد ليعد بتزويد أوكرانيا بـ 1000 صاروخ مضاد للدروع، و500 صاروخ مضاد للطائرات من نوع ستينغر، من أجل مواجهة الجيش الروسي.
وكان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أعلن في وقت سابق، السبت، أن الولايات المتحدة ستقدم لأوكرانيا مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 350 مليون دولار لصد الغزو الروسي. وكشف وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في بيان بأن “هذه الحزمة ستشمل وسائل عسكرية دفاعية جديدة، لمساعدة أوكرانيا على مواجهة تهديدات المدرعات والمقاتلات والمروحيات والتهديدات الأخرى”.وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية بدورها بأن حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا، تتضمن صواريخ “جافلين” المضادة للدروع، لدعم الدفاعات الأوكرانية ضد الغزو الروسي.
ثم سريعا أصبح أثر تلك الأسلحة النوعية ظاهرا على ساحات المعارك: دبابات T72وT80 وT90 “الأسطورية” الروسية فقدت سمعتها الحربية، تحت ضربات صواريخ “جافلين” الأمريكية الخفيفة، التي يحملها الجنود الأوكرانيون على الأكتاف. ومقاتلات “سوخوي” و”ميغ” الروسية، ومعها المروحيات الهجومية “كاموف كا-50″ (المعروفة بـ”التمساح”) التي كان الإعلام الروسي يزعم بأنها أقوى مروحية مقاتلة في العالم، تتهاوى أرضا تحت ضربات صواريخ “ستينغر” الأمريكية. وبدأنا نسمع بالموازاة مع ذلك قادة غربيين يتكلمون كثيرا(ماكرون)، محذرين (أو متوعدين) بأن “الحرب ستطول في أوكرانيا، وعلينا الاستعداد لها”.
ثمة إذن قرارا غربيا صدر باستنزاف موسكو عسكريا، من خلال قلب ميزان القوى على الأرض. لكن من الواضح أن النية تتجه أيضا إلى تبخيس سمعة السلاح الروسي، من خلال المساعدات العسكرية بالسلاح الغربي النوعي للأوكرانيين. لنتصور مثلا، أن صاروخ
“جافلين” الذي يبلغ سعره 78 ألف دولار، يدمر “أسطورة” الدبابات الروسية T90 التي يصل سعر الواحدة منها إلى حوالي 2,5 مليون دولار! وصاروخ “ستنغر” الذي سبق أن قهر الروس في أفغانستان، والذي يبلغ سعره 38ألف دولار، يُسقِط مروحية هجومية روسية من نوع “كاموف كا-50” التي يبلغ سعرها حوالي 16 مليون دولار!
بل حمل سيل الصور من ساحات الحرب الأوكرانية مشاهد حطام دبابة “أرماتا”، التي تعتبر –بحسب الدعاية الروسية– الدبابة الأكثر فتكا في العالم، ولا تتيحها موسكو للتصدير إلى الخارج. وإذا قد فتك بها صاروخ أمريكي “جافلين” حصلت عليه أوكرانيا كـ “مساعدات” مجانية سخية. والبقية آتية مع وصول المساعدات العسكرية الألمانية البريطانية والفرنسية…
من الواضح أن الموضوع يتجاوز سقف “مساعدات”، ليأخذ أبعادا استراتيجية يستهدف بها الغرب غريمه الروسي العنيد!
حرب أوكرانيا وميزان القوى بين الجزائر والمغرب
تستحق مقاربة ميزان القوى بين الجزائر والمغرب في ضوء الحرب الأوكرانية، مقالا تحليليا مستقلا بالنظر إلى أن الموضوع ينطوي على الكثير من التفاصيل المهمة. لكن الأهم الذي سنقصر عليه الحديث هنا، هي الأدوار التي تلعبها الطائرات بدون طيار التركية الصنع والصواريخ البالستية الروسية (خصوصا منها صاروخ “إسكندر” التي تهدد به الجزائر المغرب) في مجريات المعارك.
في 15 نوفمبر 2020، وفي أوج الهذيان الذي أحدثه في الجزائر، التدخل الأمني المغربي لتحرير الكركرات يومين من قبل، بتت الفضائية الجزائرية الرسمية برنامجا، ينتمي إلى صنف البروباغاندا التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة، تحت عنوان “إلا أرض الجزائر”. وتمَت الإشارة فيه بشكل مضمر إلى وجود عدوّ سمّي بالكلاسيكي “يتربص” بالجزائر. ودُعي الجيش الجزائري في هذا البرنامج إلى “الدفاع عن حدود البلاد”، مع استعراض –لأول مرة– صاروخ “إسكندر” الباليستي المتطور، لتأكيد حيازة الجيش الجزائري لعدد غير معروف منه. وللعلم فإن ما لدى الجزائر هو النسخة(E) الموجهة للتصدير، وهي لا ترقى إلى مستوى النسخة(M) الخاصة بالجيش الروسي، وهي التي يستعملها حاليا في أوكرانيا.
للتذكير، ففي 10 نوفمبر 2020، انتهت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا بانهزام هذه الأخيرة هزيمة نكراء. فتبادل جنرالات الجيش الأرميني ومسؤولوه الحكوميون الاتهامات حول من يتحمل المسؤولية في الهزيمة. وانتهى الأمر بقادة الجيش إلى الاعتراف بأن السلاح الذي اقتنته بلادهم من روسيا، وخصوصا مقاتلة “سوخوي سو-30” (تنتمي إلى الجيل الرابع) وصاروخ “إسكندر”، كانا غير فعالين في الحرب، وبالتالي مسؤولين عن الهزيمة. وبالمقابل، لعبت الطائرة بدون طيار “بيرقدار” التركية الصنع، دورا كبيرا لفائدة أذربيجان في الحرب نفسها.
حاليا، يتوفر المغرب والجزائر على الدرون “بيرقدار”، ويتوفر سلاح الجو الجزائري على السوخوي-30. وفي حرب أوكرانيا الجارية، لعبت “بيرقدار” أدوار مدهشة، حيث دمرت أرتالا متعددة من الدبابات والآليات الحربية الروسية بنجاعة. بينما لم لعبت الطائرات المقاتلة الروسية –مرة أخرى– دورا باهتا، بل وتم إسقاطها بالدفاعات الجوية الأوكرانية رغم تواضعها.
باختصار شديد، لا يمتلك المغرب صاروخ “إسكندر”، لكنه يمتلك منظومات دفاعية قادرة على إسقاطه في حال هاجمت به الجزائر المملكة. أما بخصوص الطائرات بدون طيار التركية “بيرقدار”، التي باتت تلعب أدوارا حاسمة في الحروب، فإن المغرب يمتلك منها سربين أو ثلاثة. كما يمتلك نماذج أمريكية وإسرائيلية أكثر تطورا منها.
الحرب في أوكرانيا.. ساحة لتقييم السلاح وتسويقه!

تعليقات ( 0 )