هل يلحق المغرب بركب الدول الإفريقية التي تخلت عن الفرنسية؟

ليس الصراع اللغوي في المغرب جديدا على ساحة النقاش العام، بل هو قديم منذ السنين الأولى للاستقلال (1956) عندما تم تعميم سياسة “التعريب” على قطاعات التعليم والإدارة، لمحاصرة سطوة اللغة الفرنسية تركة الاستعمار (أو “غنيمة حرب” كما أسماها مثقفون فرنكفونيون جزائريون ومغاربة). ومع تجدد الجدل وتطوره مناسباتيا على مر السنين، لم يعد طرفاه هما العربية في مواجهة الفرنسية (العروبيون ضد الفرنكوفونيين)، أحدهم يتشبث بربط المغرب بمشرقه العربي عبر حرصه على إضفاء ما يشبه القداسة على اللغة العربية، وآخر يسعى لدفعه باتجاه أوروبا القريبة منه جغرافيا.. بل أصبح متعدد الأطراف حتى رأينا من يدافع عن تدريس اللهجة المغربية الدارجة بدل العربية الفصحى، ويضع العربية ضد الفرنسية، والفرنسية ضد الإنجليزية. وظهرت لوبيات متصارعة لكل منها مصالح ومبررات.
ومؤخرا، وبمناسبة توسع النقاش على الشبكات الاجتماعية حول “إقلاع” المغرب ما بعد كورونا، تعالت الدعوات من جديد إلى التخلي نهائيا عن استعمال الفرنسية في التعليم واستبدالها بالإنجليزية، أسوة بدول إفريقية تخلت عن الفرنسية لمواكبة إقلاعها على رأسها رواندا. لكن الصراع اللغوي في المغرب ليس منحصرا في العمق بين لغات، بقدر ما هو صراع سياسي متواصل يستعصي على الحسم، بين أنصار كل تيار لغوي لحسابات قد تكمن خلفياتها الحقيقية في النهاية خارج اللغة.
الفرنكفونية في أزمة
المغرب، كما الجزائر وتونس وموريتانيا، هو دولة إفريقية “ناطقة” باللغة الفرنسية. وبالتالي جزء من منظومة الفرنكفونية التي هي إطار سياسي أكثر منه لغويا. وفي كتاب “إفريقيا بدون فرنسا”، يسلط جون-بول نغوباندي وهو رئيس حكومة سابق لجمهورية إفريقيا الوسطى، الضوء على العلاقة المعقدة بين البلدان الأفريقية الفرنكفونية والقوة الاستعمارية الفرنسية السابقة، وعلى الأوضاع المتدهورة في القارة وإمكانيات الإقلاع اقتصاديا وسياسيا.
فيلاحظ بأنه على خلاف الاستعمار البريطاني، كان الاستعمار الفرنسي اندماجيا (سياسيا وثقافيا) بمعنى أن سعى إلى أن يفرض لغته وثقافته كهوية جديدة على مُستعمَريه. وعن ما يسمى “إفريقيا الفرنسية”، يقول نغوباندي إنها لا تمثل سوى 13% من سكان القارة السمراء وثقلها الاقتصادي لا يكاد يُذكر. فدول منطقة “الفرنك الإفريقي” لا تزن أكثر من دولة نيجيريا [الأنغلوفونية] من حيث الناتج المحلي الخام.
وفي سياق ما آلت إليه العلاقات الفرنسية-الأفريقية، يتحدث الكاتب عما يسميه “طلاق النخب”. ملاحظا أن فرنسا التي تكونت فيها كل نخب إفريقيا الفرنكفونية لم تعد اليوم وجهة النخب الأفريقية. كما أن تأسيس الجامعات الأفريقية لعب دورا رئيسا في تكوين النخب محليا. لكن الطلاق مع تلك النخب يرجع في رأيه إلى سياسة التأشيرات المتشددة، التي تمارسها فرنسا حيال الطلبة الأفارقة. ما جعل النخب الإفريقية تتوجه اليوم إلى كندا والولايات المتحدة. وهنا يتساءل الكاتب عن مصير الفرنكفونية، خاصة مع الشعور المتنامي في أوساط النخب الفرنكفونية الإفريقية، بأن المعنيين الأوائل(أي الفرنسيين) بتطوير اللغة الفرنسية لا يعيرونها أهمية.
للتذكير، يوجد في إفريقيا وحدها قرابة 100 مليون ناطق بالفرنسية. وبذلك تضمّ أكبر عدد من الناطقين بها في العالم.
وتسعى فرنسا من خلال المنظمة الدولية للفرنكفونية، إلى المحافظة على حياة لغتها وثقافتها في إفريقيا والمنطقة المغاربية، باعتبارها سوقا اقتصادية هامة بالنسبة لها.
اللغة الفرنسية “تحتضر”..
اللغة الفرنسية هي خامس لغة على مستوى العالم من حيث التحدث بها. ويعود الفضل في ذلك تحديدا إلى ملايين الأفارقة الذين يستعملونها بشكل يومي. وبحسب المنظمة العالمية للفرنكوفونية، فإن 300 مليون شخص في القارات الخمس يتحدثون لغة موليير، بحيث تأتي الفرنسية بعد الصينية، والإنجليزية، والإسبانية والعربية. لكن ذلك لا يخفي حقيقة كونها في تراجع متواصل، وسط توقعات باختفائها بعد حوالي جيل من اليوم.
فقد سبق أن توقع رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر صالح بلعيد، اختفاء اللغة الفرنسية من التداول في العديد من دول العالم كلغة أجنبية أولى. وأكد أنها لن تكون لغة “الفرنكة” بحلول سنة 2050 وفقا لدراسة أعدّها المجلس. وبحسب نتائج هذه الدراسة، يرتقب أن تبقى اللغات الأكثر تداولا في العالم هي: الإنجليزية ثم العربية فالإسبانية، تعقبها اللغة الروسية. وسيبلغ عدد مستعملي العربية إلى مليار و800 مليون ساكن في العالم، بعد أن أصبحت لغة رسمية في 60 دولة من العالم.
والمعروف أن قواعد اللغة الفرنسية معقدة جدا، ما يجعل من الصعب على من لم يتعلمها منذ الصغر، أن يضبطها جيدا. هذا فضلا عن كون الفرنسية ترمز إلى الماضي الاستعماري، وبالتالي إلى استمرار الهيمنة الاستعمارية على الدول والشعوب الناطقة بها. كما أنها ليست لغة للبحث العلمي ولا للتجارة العالمية. ولذلك يهجرها الفرنسيون أنفسهم، إذ رغم إتقانهم لها كتابة ونطقا، ينتقلون إلى تعلم الإنجليزية، لكي يواكبوا مجالات العصر. وتفسر هذه الأسباب ضمن أخرى كثيرة، لماذا تفكر دول إفريقيا الفرنكفونية استبدال لغة مستعمر أمس الفرنسي بالإنجليزية.
وهكذا وفي أكتوبر 2021، انسحبت الغابون من منظمة الدول الفرنكوفونية (الناطقة بالفرنسية)، والتحاقها بمجموعة الكومنولث (الناطقة بالإنجليزية). وبرر وزيرها الأول هذه الخطوة بكون اللغة الفرنسية “لم تعد تساير التحولات التكنولوجيا والمعرفية والتنموية الطارئة في العالم”. وقد اتخذت الغابون رواندا مثالا لها، بالنظر إلى التقدم الذي تحرزه رواندا في عدد من المجالات بعد تخليها عن الفرنسية. وأظهر علي بونغو رئيس دولة الغابون، حماسة بالغة في حذو نموذج رواندا، معتبرا أن التقدم الاقتصادي الذي تشهده رواندا كان بسبب تحررها من الهيمنة الفرنسية وتبنيها للديناميكية الأنغلوفونية.
 
صراع لغوي وجدل ”سياسي”
في غضون ذلك، لا يختلف اثنان حول كون اللغة الإنجليزية هي الأكثر تداولا في العالم، سواء تعلق الأمر باستخدامها كلغة تدريس للعلوم والتكنولوجيا في أغلب جامعات العالم، أو استعمالها كوسيلة تواصل في عالم المال والأعمال. بل وحتى على شبكة الأنترنت، تحتل الإنجليزية الصدارة من حيث نشر الأبحاث العلمية والمعلومات. ولذلك كان رئيس الحكومة المغربية السابق عبد الإله بنكيران (زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي)، قد عبر عن رغبته في تحويل السياسة التعليمية بالمغرب نحو اللغة الإنجليزية، قائلًا إن “الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة. وإذا كنا سنختار، فإننا يجب أن نختار الإنجليزية لأنها لغة العصر والعلم والتجارة. ولست أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تعلم الإنجليزية جيدا”.
لكن على الرغم من إطلاق صفحات مغربية، متخصصة في نشر المحتوى التعليمي والتربوي والسياسي بالإنجليزية، للمطالبة بجعل الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في النظام التعليمي بدل الفرنسية، وعلى الرغم من تقدم المغرب في استعمال اللغة الإنجليزية في السنوات الماضية، إلا أن هذا التقدم ما يزال محدود الأثر والمدى، بحيث يصطدم بالحضور القوي للغة الفرنسية في التعليم والإدارة والاقتصاد. فالواقع العملي عنيد ويتطلب المزيد من الدراسة والتعمق والاستعداد الجيد على أكثر من نطاق، من أجل تفعيل هذا المسعى الذي يراد به الارتقاء بالمستوى العلمي والتعليمي في المغرب. على أنه ينبغي التنويه إلى أن اللغتين الفرنسية والإنجليزية ليستا وحدهما في المعادلة.
إن الصراع اللغوي في المغرب ليس جديد، بل هو قديم منذ السنين الأولى للاستقلال (1956) عندما تم تعميم سياسة “التعريب” على قطاعات التعليم والإدارة لمحاصرة سطوة اللغة الفرنسية. ومع تجدده على مر السنين بحيث لم يعد طرفاه هما العربية في مواجهة الفرنسية (العروبيون ضد الفرنكوفونيين)، أحدهم يتشبث بربط المغرب بمشرقه العربي عبر حرصه على إضفاء ما يشبه القداسة على اللغة العربية، وآخر يسعى لدفعه باتجاه أوروبا القريبة منه جغرافيا.. بل أصبح متعدد الأطراف والأقطاب عبر الانتصار للهجة المغربية الدارجة ضد اللغة العربية الفصحى، والعربية ضد الفرنسية، والفرنسية ضد الإنجليزية. وظهرت لوبيات متصارعة لكل منها مصالح ومبررات. وعلى ذلك، فإن الصراع اللغوي في المغرب ليس منحصرا بين لغات، بقدر ما هو صراع متواصل يستعصي على الحسم، بين أنصار كل تيار لحسابات قد تكون في النهاية خارج اللغة.
 
القرار سياسي بالأساس
وفي المغرب الذي يعد خامس دولة فرنكفونية من حيث عدد الناطقين بالفرنسية،  فإن هذه الأخيرة تشهد مع ذلك تراجعا تدريجيا على مستوى التداول الشعبي. ومن مؤشرات ذلك أن اللغة العربية أصبحت تحتل الصدارة، بين اللغات المستعملة في الشبكات الاجتماعية لدى المستخدمين المغاربة والعرب لمواقع التواصل الاجتماعي، وفيسبوك يعد أبرز مثال على ذلك.كما بدأ الشعب المغربي ينتفض للتملص عبر جمعيات وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، مطلقين حملات تطالب بتعويض اللغة الفرنسية بالإنجليزية في النظام التعليمي؛ في ما يشبه تمردا مغاربيا على الهيمنة الفرنسية.
وقد لوحظ مؤخرا  أنه في مجال علامات التشوير الجديدة على الطرقات السريعة مثلا، تتم كتابة الاتجاهات والارشادات الطرقية باللغتين العربية والأمازيغية فقط. بينما كان الحال في السابق أن تتم كتابتها بالفرنسية والعربية. ويُفَسر هذا التحول بشروع السلطات الوصية على القطاع في تنزيل مقتضيات الدستور، الذي يحدد اللغات الرسمية في المغرب في اثنتين: العربية والأمازيغية. وعلى مستوى وزارة الخارجية، حيث لاحظ المغاربة أن اللوحة الإرشادية للوفد المغربي في الملتقيات والمؤتمرات الدولية، أصبحت تحمل اسم المملكة المغربية، وتحتها مقابله الإنجليزية (Kingdom of Morocco).
هكذا، وكما يحصل في الجزائر، تتوالى المطالَبات بإنهاء التعامل باللغة الفرنسية في القطاعات الحكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم تواجد الإنجليزية في التعليم بدل الفرنسية. وقد أصبح هذا المطلب يتردد على نحو واسع، على لسان أولياء التلاميذ في المدارس والطلبة الجامعيين وحتى الأساتذة والباحثين. على اعتبار أن اللغة الإنجليزية هي السائدة في العالم. وفي غياب تفاعل حكومي مع مطالبهم، يلجأ قطاع عريض من الآباء إلى تسجيل أبنائهم في مراكز خصوصية لتعليم ودعم اللغة الإنجليزية. والملاحظ أن هذا النوع من المراكز الخصوصية انتشر على نحو كبير في السنين الأخيرة.
ويعتبر موقف الباحث المغربي في اللسانيات ورئيس مجلس إدارة مركز الدراسات والبحوث الإنسانية فؤاد بوعلي، حاسما في موضوع إعطاء الأولوية للإنجليزية بدل الفرنسية. فهو يرى بأن اللغة الإنجليزية هي “لغة العلوم والأكثر انفتاحا على المعارف.
فلا يمكنك مثلا أن تسجل بحثا في جامعات العالم إلا بالإنجليزية”، يقول بوعلي. ويضيف موضحا: ​​”صحيح أن اللغة الفرنسية عرفتنا بالآداب والفنون وبفولتير ومالرو وروسو وفلسفة الأنوار، لكن الفرنسيين أنفسهم عرفوا أن العصر الحالي هو عصر الإنجليزية”.
بخصوص مطالب إحلال الإنجليزية بدل الفرنسية، يرى باحثون مغاربيون بأن هذا الهدف ليس عملية سهلة، بحكم أن الفرنسية لا تزال متداولة بشكل واسع في عموم المغارب، في الإدارة والمؤسسات التعليمية والاقتصادية والأمنية. ولذلك ما زال المستوى الرسمي في المغرب يبدو غير جاهز بعد لاتخاذ قرار القطيعة مع لغة مستعمر الأمس. فاتخاذ قرار بالتراجع عن اللغة الفرنسية، يعني تراجعا للعلاقات الثنائية السياحية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسية مع باريس. وهو قرار لم تنضج الظروف لاتخاذه بعد بما يكفي…

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي