إنتاج الأسمدة.. هل يمتلك المغرب الحل لأزمة غذاء العالم؟

نشر “معهد الشرق الأوسط” الأسبوع الماضي مقالا (بالإنجليزية)، للبروفيسور مايكل تانشوم الباحث غير المقيم في “برنامج الاقتصاد والطاقة” بالمعهد نفسه، والباحث المشارك للسياسة في برنامج إفريقيا في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”. ويدور المقال حول الدور الذي يمكن أن يلعبه المغرب في ظل أزمة الغذاء العالمية، باعتباره واحدا من كبار الدول المنتجة للأسمدة في العالم. وبالنظر على أهمية مضمون المقال، نعيد نشره بتصرف تعميما للفائدة.
حوّلت صناعة الأسمدة الفوسفورية المغرب، بفضل قدرته الإنتاجية الهائلة والانتشار الدولي لصادراته، إلى حارس أمين على سلاسل الإمداد العالمية الغذاء. وتكمن مركزية المغرب بالنسبة للأمن الغذائي العالمي، في حقيقة أن جميع المحاصيل الغذائية تتطلب عنصر الفوسفور لكي تنمو، في وقت يمتلك المغرب أكثر من 70℅ من احتياطيات خام الفوسفاط في العالم، والتي يُشتق منها الفوسفور المستخدم في الأسمدة.
ريادة عالمية في إنتاج الأسمدة
منذ بدء صناعة تعدين الفوسفاط عام 1921، ظل المغرب مُصدرا رئيسا للفوسفور الذي يُستخدَم في إنتاج الأسمدة الصناعيةن بحيث يعد المغرب الآن أحد أكبر خمس دول مصدرة للأسمدة في العالم. وبدأ المكتب الشريف للفوسفاط تصنيع قيمة مضافة أعلى للمدخلات الكيميائية للأسمدة، وخاصة الحامض الفوسفوري، والأسمدة الفوسفورية نفسها، منذ الثمانينات والتسعينات. وفي عام 2008 أعاد المغرب تنظيم المكتب الشريف للفوسفاط، ليصبح شركة مملوكة للدولة. وأدت عملية إعادة الهيكلة هذه وما صاحبها من بناء ضخم للبنية التحتية، إلى تحويل المكتب إلى شركة رائدة عالميا في جميع مراحل تصنيع الأسمدة.
وكان محور تحولها هو بناء أكبر مركز لإنتاج الأسمدة في العالم، بالجرف الأصفر على الساحل الأطلسي للمغرب. وبحلول عام 2018، تضاعف إنتاج المملكة السنوي من الفوسفاط، كما تضاعف إنتاجه من الأسمدة الكيماوية ثلاث مرات؛ ليحقق فائضا تشغيليا إجماليا بأكثر من مليار دولار.
وفي عام 2020 أنتجت عمليات تصنيع المكتب 40.7 مليون طن من الفوسفاط، وصدر 10.3 مليون طن من الفوسفاط الخام. ومن إمدادات الفوسفاط صنع المكتب 7.1 مليون طن من الحامض الفوسفوري – المُرَكب الكيماوي المُستخدَم في صناعة الأسمدة – بينما صدَّر 1.9 مليون طن من المدخلات الرئيسة. وبلغت حصة المكتب في السوق الأفريقية 54℅ من منتجات الفوسفور في 2020. وتتمتع شركة الفوسفاط المغربية بقوة مماثلة في أوروبا وأمريكا الجنوبية، بحصة سوقية بلغت في 2020 على التوالي 41℅ و46℅. كما تبلغ حصة المكتب 32℅ من سوق الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وحتى في أمريكا الشمالية، حيث يواجه المكتب منافسة شديدة من شركة الفوسفاط “موزايك” الأمريكية، لا يزال المكتب يحتفظ بحصة سوقية تبلغ 28℅، وهو ما يمثل حوالي 60℅ من سوق الاستيراد في أمريكا.
ومع تحول المكتب الشريف للفوسفاط إلى عملاق دولي لتصدير الأسمدة، بلغ إجمالي إيراداته لعام 2020 حوالي 5.94 مليار دولار [أزيد من 60 مليار درهم]، وشكلت مداخيل الشركة ما يقرب من 20℅ من عائدات صادرات المغرب. ويعد المكتب أكبر مُشَغِّل في البلاد، حيث يوفر فرص عمل لـ21 ألف شخص. وإلى جانب توسع عائدات التصدير من خلال التسويق الدولي، استخدمت الرباط صادرات المكتب أداةً للسياسة الخارجية، لا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تمزج الشركة ببراعة بين المبيعات والاستثمارات في الإنتاج المحلي، والتواصل التنموي لإنشاء شبكة واسعة من الترابط التجاري.
قوة ناعمة للمغرب في أفريقيا
تسهم الزراعة بنسبة 30℅ من الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا، وتوظف 55℅ من اليد العاملة، ويعتمد ازدهار القارة على النهوض بقطاعها الزراعي. ومع امتلاك أفريقيا الآن لـ 65℅ من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، أصبح التقدم في تطوير قطاعها الزراعي حيويا على نحو متزايد لضمان الأمن الغذائي العالمي.
ولذلك، فمن خلال المكتب الشريف للفوسفاط، وضع المغرب نفسه في طليعة الجهود المبذولة لتغيير الزراعة الأفريقية. ففي عام 2016 أنشأ فرع أفريقيا للمكتب الشريف للفوسفاط، للإسهام في تطوير النظم البيئية الزراعية المتكاملة في القارة. ويركز مكتب أفريقيا، الذي يعمل في 12 دولة، على تمكين صغار المزارعين من المشاركة على نحو أفضل وأكثر ربحية، في سلاسل القيمة الزراعية. وفي عام 2018 أطلق مكتب أفريقيا برنامجا لتزويد المزارعين الأفارقة “بحلول شاملة ومخصصة من البداية إلى النهاية”، لزيادة غلاتهم ومداخيلهم وسبل عيشهم طويلة الأمد.
ويكشف نجاح نهج مكتب أفريقيا أهمية الأسمدة في الأمن الغذائي، وضرورة تعزيز المشاركة المحلية في تصنيع الأسمدة وإنتاج الغذاء. وقبل عقد من إنشاء مكتب أفريقيا، دعا إعلان أبوجا لعام 2006 الصادر عن الاتحاد الأفريقي، إلى “ثورة أفريقية خضراء” لزيادة الإنتاجية الزراعية. ومع استخدام الأسمدة في أفريقيا عند متوسط ​​ثمانية كيلوجرامات للهكتار، أي 10℅ من المتوسط ​​العالمي، تبنى الاتحاد الأفريقي هدف رفع مستوى استخدام الأسمدة، إلى نحو 50 كيلوغراما للهكتار. ولتحقيق هذا الهدف أنشأ آلية “تمويل الأسمدة في أفريقيا”، التي يديرها بنك التنمية الأفريقي.
لقد عاد المغرب إلى الاتحاد الأفريقي في عام 2017، بعد أن غادر منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1984 احتجاجا على منحها العضوية لما يسمى “الجمهورية الصحراوية”. وفي عام 2020 اشتركت “آلية تمويل الأسمدة في أفريقيا” التابعة لبنك التنمية الأفريقي، مع مكتب أفريقيا، في مشروع مدته ثلاث سنوات لدعم 430 ألف مزارع من أصحاب الملكيات الصغيرة في كوت ديفوار وغانا، من خلال توفير ضمان ائتمان تجاري جزئي بقيمة 4 ملايين دولار.
يعمل البرنامج المغربي في أكبر أربعة اقتصادات في غرب أفريقيا، هي نيجيريا وغانا وكوت ديفوار والسنغال. وقد استفاد منه 630 ألف مزارع، ما مَكّن من زيادات كبيرة في غلة المحاصيل، بما في ذلك زيادة بنسبة 48℅ في محصول الذرة في نيجيريا، و63℅ قفزة في محصول الدخن في السنغال. لكن تبقى أهم شراكة للمغرب في الأسمدة هي مع نيجيريا. ويوفر مكتب أفريقيا التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، أكثر من 90℅ من الطلب السنوي على الأسمدة للبلاد. وتُعد نيجيريا استراتيجية للمغرب، حيث تمتلك أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في أفريقيا. ونظرا لأن المغرب يفتقر إلى موارد كافية من الغاز، يمكن لنيجيريا أن توفر له الغاز الذي ينتج منه المكون الأساسي الآخر للأسمدة، وهو النيتروجين، بوجه عام على شكل أمونيا. وفي عام 2018 وقع مكتب أفريقيا و”هيئة الاستثمار السيادي لنيجيريا، اتفاقية لإنشاء مصنع للأمونيا والأسمدة بقيمة 1.4 مليار دولار، بهدف زيادة إمدادات الأسمدة إلى نيجيريا من مليون إلى 3 ملايين طن في أجل خمس سنوات.
تطوير الزراعة الإفريقية
وتبلغ الطاقة الإنتاجية السنوية لمصنع المكتب الشريف للفوسفاط في نيجيريا 750 ألف طن من الأمونيا، ومليون طن من الأسمدة. ويصدر هذا المصنع ما يصل إلى 70℅ من إنتاج الأمونيا إلى مجمع الجرف الأصفر، التابع لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، لاستيراد الأسمدة إلى المغرب، بينما يصدر المغرب الحامض الفوسفوري لاستخدامه مع ما تبقى من الأمونيا في نيجيريا، لإنتاج مليون طن سنويا من فوسفاط الأمونيوم الثنائي، وأسمدة النيتروجين، والفوسفور، والبوتاسيوم، لتلبية حاجيات السوق المحلي النيجيري.
وفي مارس 2021، وقَّع المكتب الشريف للفوسفاط و”هيئة الاستثمار النيجيري السيادي”، اتفاقية مساهمين لتشكيل شركة مشتركة لبناء مصنع متكامل، من المقرر أن يبدأ تشغيله في عام 2025. وكانت الاتفاقية جزءا من حزمة من الصفقات التي تضمنت اتفاقية إطارية لثلاث شركات نفط وغاز نيجيرية لتزويد المصنع بالغاز الطبيعي.
ويستثمر مكتب أفريقيا التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، كذلك ما يقرب من 1.3 مليار دولار في بناء مجمع للأسمدة الصناعية في غانا. ومن خلال الجمع بين منتجات الفوسفور المغربية والغاز الطبيعي الغاني، سينتج المكتب الأمونيا، واليوريا، وفوسفاط الأمونيوم الثنائي، بحجم يبلغ نحو مليون طن سنويا. ولأن عدد سكان غانا يمثل 15℅ فقط من عدد سكان نيجيريا، يتطلع المكتب إلى المنشأة الغانية للتصدير إلى أسواق أخرى في غرب أفريقيا. وفيما يخص شرق أفريقيا، يبني المكتب ثاني أكبر مجمع لإنتاج الأسمدة في أفريقيا في إثيوبيا. وباستخدام الحامض الفوسفوري الذي يوفره المغرب والغاز والبوتاس، فإن مرحلة التطوير الأولى البالغة تكلفتها 2.4 مليار دولار ستنتج سنويا 2.5 مليون طن من الأسمدة الصناعية.
ويطور مكتب أفريقيا في ذلك علاقات عميقة مع شركائه الأفارقة، من خلال تطوير الأسمدة المخلوطة وإنشاء وحدات مزج محلية. ويسمح السماد المخلوط للبلد بمطابقة مغذيات الأسمدة مع ظروف التربة المحلية واحتياجات النبات. ويؤدي هذا إلى الحصول على فعالية أكبر من حيث التكلفة، وتتجنب الضرر البيئي الناجم عن المغذيات الزائدة. ومن خلال العمل مع وكالة التحول الزراعي الإثيوبية، اكتشف مكتب أفريقيا للمكتب الشريف للفوسفاط أن عائق نمو المحاصيل في إثيوبيا يتمثل في نقص الكبريت في التربة. ومن خلال إنتاج صيغ الأسمدة المناسبة، تمكن المكتب من زيادة محاصيل غلال معينة بنسبة 37℅.
وفي نيجيريا يبني المكتب حاليا ثلاث وحدات خلط في ثلاث ولايات، بطاقة إجمالية لإنتاج 500 ألف طن من الأسمدة سنويا. وستنتج الوحدات مزيجا من الأسمدة المخصصة لتلبية احتياجات مزارعي الأرز، والذرة، وفول الصويا، والكسافا، والطماطم، في نيجيريا. مما يرفع حجم غلة المزارعين بنسبة 50 حتى 85℅ للهكتار الواحد. وينفذ المكتب كذلك مشروعات تصنيع ومزج مهمة أخرى في كل من تنزانيا، ورواندا، ودول أخرى.
 ريادة عالمية للمغرب، ولكن…
وعندما يصبح المغرب أحد أكبر مُصدري الأسمدة في العالم، بدلا من الاستمرار في تصدير الفوسفاط الخام فقط، فسوف يثري اقتصاده ويرفع مكانته الدولية. وفي أفريقيا جنوب الصحراء أدى الجمع بين المشروعات المشتركة للمملكة في الإنتاج المحلي، والتواصل المباشر مع المزارعين الأفارقة إلى زيادة ملحوظة في المحاصيل الزراعية الأفريقية، واتساع القوة الناعمة للمغرب عبر القارة.
غير أن العالم يواجه الآن تحديات جديدة ناجمة عن جائحة كوفيد-19، تسببت في ارتفاع حاد في معدلات الجوع في العالم وفي تضخم أسعار الغذاء العالمي. وهو ما سلط الضوء على دور المغرب في ضمان الأمن الغذائي العالمي، واستقرار أسعار المواد الغذائية التي يعتمد عليها جزء كبير من اقتصاد العالم. فقد وصل مؤشر أسعار الغذاء لعام 2021، الذي نشرته «منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)»، إلى أعلى مستوى له في 10 سنوات، حيث زاد بنسبة 28℅ في جميع أنحاء العالم عن العام الذي سبقه.
ونتج عن هذه الأزمة ارتفاع مقلق في الجوع وسط الشرائح الأكثر ضعفا من سكان العالم. وفي تقريرها السنوي لعام 2021، حذَّرت منظمة الأغذية والزراعة من أن “العالم يمر بمرحلة حرجة”، مستشهدة بمتوسط ​​تقديرها القائل بأن 768 مليون شخص واجهوا الجوع في عام 2020. وخلال العام نفسه، بلغ إجمالي عدد السكان الذين عانوا من نقص التغذية في أفريقيا 282 مليون شخص، بزيادة قدرها 46 مليون عن عام 2019. ولذلك فإنه إذا نجح المغرب في المساعدة على وقف موجة الجوع المتزايدة في أفريقيا، فسيصبح أحد الفاعلين الرئيسين في القارة.
لكن في الوقت الذي يسعى فيه المغرب إلى تحقيق طموحاته التجارية والجيوسياسية، يواجه تحديات بيئية واقتصادية مرهقة على نحو متزايد، تفاقمت بسبب التأثير المدمر لتغير المناخ. فمسلسل استخراج الفوسفاط وإنتاج الأسمدة يُعد عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة والمياه، إذ تستهلك صناعة الفوسفاط والأسمدة المغربية حوالي 7℅ من إنتاجه السنوي من الطاقة و1℅ من مياهه.
وتزداد المشكلة تعقيدا بسبب النيتروجين، وهو عنصر الأسمدة الأساسي الآخر الذي تحتاج إليه النباتات. فالغاز الطبيعي مكون أساسي لإنتاج النيتروجين، وبحلول نوفمبر 2021، أدى الارتفاع الحاد في أسعار الغاز إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الأمونيا إلى 1000 دولار للطن، بدل 110 دولارات في وقت سابق من العام الماضي. وإدارة المغرب الجيدة لتدبير العلاقة بين الغذاء والماء والطاقة، سوف تؤثر على التنمية الاقتصادية، وعلى استقرار الإمدادات الغذائية في جميع أنحاء العالم. إن سعي المملكة إلى توسيع توليد الطاقة من الطاقة الشمسية والرياح، يحمل إمكانية التغلب على هذه التحديات من خلال إنتاج الهيدروجين «الأخضر» الذي يمكن استخدامه ليحل محل الغاز الطبيعي لإنتاج الأمونيا الخضراء.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي