ماذا وراء “البرود” في العلاقات بين المغرب وإسرائيل؟

كان لافتا للانتباه بشكل كبير، غياب السفير الإسرائيلي “دايفيد غوفرين” عن حفل استقبال الملك الإثنين 17 يناير الماضي، أوراق اعتماد 39 ديبلوماسيا أجنبيا، كسفراء مفوضين فوق العادة لبلدانهم بالمملكة. فذهبت القراءات والتكهنات مذاهب شتى في المغرب وخارجه، في محاولة لفهم هذا الغياب.. خصوصا في ظل برود واضح في العلاقات بين الرباط وتل أبيب.. فهل انتهى سريعا ما يسميه بعض المراقبين العرب “شهر العسل” بين العاصمتين؟
 “سفير” أم مدير مكتب؟
في 22 ديسمبر 2020، وقع كل من المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، على إعلان ثلاثي مشترك في العاصمة الرباط. وفي المؤتمر الصحفي المشترك بين ممثلي الدول الثلاث، كشف رئيس الديبلوماسية المغربية ناصر بوريطة، عن “إقامة علاقات دبلوماسية سلمية ودية وكاملة، بين المغرب وإسرائيل لخدمة السلام في المنطقة وتعزيز الأمن الإقليمي”. وتضمن الإعلان الثلاثي ثلاثة محاور، أحدها يخص “إقامة علاقات أخوية ودبلوماسية كاملة” بين المغرب وإسرائيل. بعدها بأيام، أعلنت هذه الأخيرة عن تعيين سفيرها السابق بمصر، الديبلوماسي دايفيد غوفرين مديرا لـ “مكتب الاتصال الإسرائيلي” بالرباط.
ورغم أن غوفرين سارع بالالتحاق بالمغرب، وتحمس كثيرا في القيام باتصالات مكثفة، إلا أنه على المستوى الرسمي بدا الأمر كما لو أنه تم تجاهله. وفي 12 غشت 2021، دشن وزير الخارجية الإسرائيلي بالعاصمة الرباط، رسميا مقر مكتب الاتصال الإسرائيلي ودايفيد غوفرين مديرا له. لكن هذا الأخير لم يحظ لا قبل ذلك ولا بعده بأي استقبال رسمي.
ثم في 10 أكتوبر 2021، أعلنت إسرائيل عن تعيين دايفيد غوفرين سفيرا لها بالمغرب. ورغم أن ذلك التعيين يبقى مشروطا ‒بحسب الأعراف الديبلوماسية‒ بقبول البلد المضيف لأوراق اعتماده، بما يعني المواقفة على اعتماده لديه رسميا؛ إلا أن غوفرين واصل نشر أخبار وصور تحركاته واتصالاته (غير الرسمية) بالمغرب، وإعطاء تصريحات بصفته “سفيرا”. ومنها يظهر جلي أن إسرائيل تراجعت عن اعترافها بمغربية الصحراء، وتوسلت هي الأخرى التموقع في منطقة رمادية أسوة بالأوروبيين.
ثم أخيرا وليس آخرا، الثلاثاء الماضي، بينما كان مفترضا أن يكون دايفيد غوفرين السفير رقم 40، إلى جانب زملائه الذين استقبلهم العاهل المغربي، غاب بشكل خالف التوقعات.
وما زاد الموقف غموضا، أن الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى بايتاس، لم يقدم جوابا واضحا عندما طُرح عليه سؤال في الموضوع، بعد انتهاء اجتماع المجلس الحكومي الخميس الماضي (20 يناير). وما دام الموقف الرسمي المغربي (والإسرائيلي)، متكتما حول الموضوع (حتى كتابة هذه السطور)، كيف يمكن قراءة ما يجري؟
 “تطبيع” براغماتي
في مجمله، تضمن الإعلان الثلاثي (الذي يسميه البعض “اتفاق التطبيع”) الموقع بين الرباط وتل أبيب وواشنطن قبل نحو عام، ثلاثة محاور هي: أولا، الترخيص للرحلات الجوية المباشرة بين البلدين مع فتح حقوق استعمال المجال الجوي. وثانيها، الاستئناف الفوري للاتصالات الرسمية الكاملة بين مسؤولي البلدين، و”إقامة علاقات أخوية ودبلوماسية كاملة”. ثم ثالثها، تشجيع تعاون اقتصادي ديناميكي وخلاّق، ومواصلة العمل في مجال التجارة والمالية والاستثمار، وغيرها من القطاعات الأخرى. وشمل ذلك التوقيع على أربع اتفاقيات بين المغرب وإسرائيل، تَهم الطيران المدني، وتدبير المياه، والتأشيرات الدبلوماسية، وتشجيع الاستثمار، والتجارة بين البلدين.
وبالموازاة مع ذلك، وقّع المغرب والولايات المتحدة اتفاقين، للتعاون بقيمة ثلاثة مليارات دولار، موجهان لإنعاش الاستثمارات الأمريكية بالمغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث ينشط المغرب اقتصاديا. وهكذا هَمّ الاتفاق الأول، وهو عبارة عن مذكرة تفاهم بين الحكومة المغربية ممثلة بوزارة الاقتصاد، والحكومة الأمريكية ممثلة بشركة تمويل التنمية الدولية. أما الاتفاق الثاني الموقع بين وزارة الشؤون الخارجية المغربية وشركة التنمية الأمريكية، فهو عبارة عن “إعلان نوايا” بين الطرفين، بخصوص المشروع الأمريكي “ازدهار إفريقيا”. ويتعلق الأمر بمبادرة أمريكية تم إطلاقها سنة 2018، وتهم 17 وكالة أمريكية بما في فيها القطاعات الوزارية الأمريكية الرئيسة. بالإضافة إلى بنك التصدير والاستيراد بالولايات المتحدة، ومؤسسة للاستثمار الخاص بما وراء البحار، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومؤسسة تحدي الألفية، من بين مؤسسات أخرى.
وكان مقررا تبعا لذلك، أن تلتزم “المؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية”، باستثمار 3 مليارات دولار بالمغرب في مشاريع كبرى، من خلال “صندوق محمد السادس للاستثمار الاستراتيجي”، وكذا الاستثمار مع مقاولات مغربية في مشاريع مشتركة بدول إفريقيا جنوب الصحراء. كما شمل الاتفاق مع الجانب الأمريكي، إلى جانب الاعتراف بمغربية الصحراء، إقامة قنصلية أمريكية للشؤون الاقتصادية، بجوهرة الصحراء مدينة الداخلة، من أجل متابعة الاستثمارات الأمريكية بالصحراء المغربية.
 بداية تراجع أمريكي
لكن بعد مرور أكثر من عام، لم يتجسد شيء من تلك الالتزامات الأمريكية. بل إن الموقف الأمريكي نفسه من قضية الصحراء المغربية، لم يتطور ولم يتراجع. وهذا سبب كاف لكي يبطئ الجانب المغربي من وتيرة “تطبيع” العلاقات مع إسرائيل. فـ “التطبيع” المغربي مختلف عما سواه من اتفاقيات التطبيع مع أطراف عربية أخرى. فهو صفقة براغماتية قائمة على تبادل المنافع، وبالتالي فإن التزامات “الاتفاق الثلاثي” مترابطة ومشروطة بأجندة محددة وواضحة.
ولذلك بدا من الواضح أن المغرب أصبح يتثاقل في تطوير علاقاته مع الدولة العبرية، والمجال الوحيد الذي ذهب فيه بعيدا معها حتى الآن هو المجال العسكري… وبحسب الإعلام العبري، يخشى مسؤولون إسرائيليون أن يتوقف مسلسل تطبيع العلاقات مع المغرب، بسبب التباس الموقف الأمريكي من قضية مغربية الصحراء في عهد إدارة بايدن. وما يزيد الطين بلة ويضعف الموقف الإسرائيلي، أنه مع نهاية العام 2021، وقَّع الرئيس الأمريكي جو بايدن على “قانون الإنفاق الدفاعي” للعام 2022. ويمنع هذا القانون السنوي الجديد في أحد بنود فقرة “أموال قانون إقرار الدفاع الوطني الأمريكي”، من “دعم مشاركة الجيوش المغربية في التدريبات العسكرية المشتركة، حتى تُظهِر الرباط التزامها تجاه اتفاق سلامٍ في الصحراء”.
قد يشكل هذا التقييد الجديد، الذي فرضه مشرعون جمهوريون وديمقراطيون بالكونغرس، مشكلة للقيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، التي تنظم بالقارة السمراء أكبر تدريبات عسكرية متعددة الجنسيات (الأسد الإفريقي)، انطلاقا من المغرب كل عام. لكن يمكن لوزير الدفاع لويد أوستن تجاوز الحظر، إذا ما أقنع الكونغرس بأن هذا “التقييد” قد يعرِض الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر، بحسب نفس القانون. ومن المُفترض أن يُطلِع مسؤولو الإدارة مُشرّعي الكونغرس على هذه القضية بحلول الفاتح من مارس القادم، بحسب ما كشفت مصادر أمريكية.
ويمثل إدراج هذا البند فوزا صغيرا (ما يزال مؤقتا) لكبير الجمهوريين، في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ جيم إنهوف (من ولاية أوكلاند)، الذي قاد حملة من الحزبين في وقت سابق من هذا العام، ضد تبني إدارة بايدن لسياسة عهد ترامب تواصل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء.
تشكيك إسرائيلي
من الواضح إذن أن المغرب أصبح يتثاقل، في تطوير علاقاته مع الدولة العبرية لأسباب موضوعية. وكانت السلطات المغربية أوقفت قبل حوالي أسبوع، تسيير رحلات جوية كانت مبرمجة من إسرائيل نحو المغرب، في إطار السياحة الدينية التي يقوم بها سياح إسرائيليون لمزارات يهودية بالمغرب. وكان المبرر هو تطورات “الوضعية الوبائية”. وتدخلت الجالية اليهودية في المغرب بإصدار بيان تؤيد فيه قرارات السلطات المغربية الوقائية، لتهدئة ما يبدو أنه قلق (أو ربما غضب إسرائيلي) من الموقف المغربي السيادي.
وبحسب الإعلام الإسرائيلي، يخشى مسؤولون إسرائيليون أن يتوقف تطور العلاقات مع المغرب عند وضعه الحالي، أو أن يتراجع المغرب عن صفقة تطبيع العلاقات، بسبب التباس الموقف الأمريكي [ولا يتحدثون عن حربائية الموقف الإسرائيلي] من قضية مغربية الصحراء.
وفي هذا الصدد، أعرب إيلي أفيدار وزير التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، عن تخوفه من “عدم دوام” اتفاقيات أبراهام (الموقعة بين تل أبيب وبعض الدول العربية التي بينها المغرب). والسبب في ذلك برأيه أن الأمر يتعلق في الأصل بـ “مكافآت” قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتلك الدول. ولذلك انتقد أفيدار الاتفاقيات الدبلوماسية الموقعة مع كل من المغرب والبحرين والسودان، لأنها كانت ‒برأيه‒ تستند إلى “مكافأة من الأمريكيين”. وبالتالي فهي “لا تنبني على دعامة مستقرة وثنائية”، مستثنيا من ذلك الاتفاق الموقع مع الإمارات.
وأردف أفيدار موضحا قلقه، بالتذكير أنه بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (في خريف العام 2000)، أغلق المغرب مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط. ملمحا بأن تراجع المغرب عن التطبيع وارد في أي وقت، ومضيفا في ذات السياق: “أعتقد أن الاتفاقيات يجب أن تُبنى على أسس ثنائية مستقرة، لأنها إذا كانت ترتكز فقط على هدية من أمريكا فلن تدوم طويلا”.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي