في كل مرة أتابع فيها ما يطفو على سطح المشهد الإعلامي الرياضي في بلادنا، أشعر بحاجة ملحّة للبوح، لا من موقع أعلى، ولا بدافع إعطاء الدروس لأحد، فأنا من هذا الجسد المهني، أخطئ كما يُخطئ غيري، وأتعلّم كما يتعلّم غيري، ولكن فقط لأننا، كصحفيين، بحاجة إلى لحظة توقف ومساءلة صادقة مع أنفسنا.
في المغرب، بات المشهد الصحفي في حالة لا تُحسد عليها. انفلاتٌ عام حتى لا يُزايد علينا أحد، يطال المهنية، والصدق، والمصداقية، لكنه في الصحافة الرياضية يأخذ شكلا أخطر..
شكلا قد يتحوّل إلى بارود في مدرجات الملاعب، أو شرارة تُشعل فتنة في الشوارع. ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون الصحافة عينا نقدية وموجهة للرأي العام، أصبحت في كثير من الحالات مجرد طرف منحاز داخل صراعات الأندية، وأداة في يد “الانتماء”..
ما تشهده الساحة اليوم ليس مجرد “تعبير عن الرأي”، فالرأي له قواعده وأدواته، بل انجراف كامل نحو خطاب لا يخفي الميول، بل يُجاهر به ويدافع عنه.
صحفيون، منابر، وحتى بعض “المحللين”، باتوا يعبرون عن ولائهم لفرق بعينها في العلن، ويتعاملون مع الأحداث من منطلق “نحن” و”هم” لا من منطلق صحفي مهني.
من الطبيعي أن لكلٍّ واحد ميوله الكروية. لا أحد يُطالب الصحفي بأن يتخلى عن إنسانيته، عن عاطفته، عن حبه لنادٍ نشأ على صوته أو تربى على إنجازاته.
لكن الخط الفاصل بين الميول الشخصية والممارسة المهنية بدأ يتآكل شيئًا فشيئًا، وأصبحنا كجزء من “معسكرات التشجيع”، لا عيون تُراقب وتتابع، وتساهم في صناعة المعنى..
والأدهى أن هذا الخلط يكاد يتحوّل إلى “قاعدة جديدة” تُشرعن الانحياز وتُسوّغ التحامل، وتُعطي انطباعا أن الإعلام الرياضي مجرد “امتداد صوتي” للمدرجات، لا فضاء للتفسير والتأطير والتوجيه.
لسنا سُذّجًا. نعلم أن الحدة مطلوبة أحيانا، وأن اللغة اللاسعة تجذب الانتباه، وأن السوق الإعلامي اليوم بات يتغذى على الإثارة. لكن السؤال المُقلق هو إلى أين نمضي بهذا الخطاب؟ هل ما نقدّمه أحيانا مادة للتحليل والتنوير؟ أم مجرد وقود يُغذّي التعصب، ويبرّر الشغب، ويُلهب مشاعر جمهورٍ يتلمّس فينا مشروعية للانفعال؟
كم مرة تجاوزت الكلمة إطارها لتتحوّل إلى شعار يُرفع في المدرجات، أو إلى تبرير يُساق بعد حادثة شغب؟ وكم مرة لعب الإعلام بقصد أو بغير قصد دور المحرّض بدل دور المهدّئ؟
قد يكون الخطأ أحيانا بدافع الحماس، أو تحت ضغط السبق، أو رغبة في التعبير عن رأي صادق لم نحسن صياغته. لكننا في النهاية مسؤولون، ليس فقط أمام الجمهور، بل أمام المهنة وأمام الجيل الذي يُشاهدنا وهو في طور التكوين، وأمام ضمائرنا..
وهنا أقولها بتجربتي المتواضعة..أن تُهاجَم لأنك بثثت معلومة صحيحة، أو كشفت خللا موثقا، فهذا، مهما كان مزعجا، أهون بكثير من أن تُهاجم لأنك فقدت صفتك كصحفي وتحولت إلى مشجع. الأولى تُشعرك أنك قمت بدورك. الثانية تُشعرك أنك مجرد رجع صدى.
كل ما أتمناه، وأقوله بحب واحترام، هو أن نستعيد تلك البوصلة التي كانت تُوجّه المهنة يوما.
أن نعود إلى النصيحة القديمة..”المسافة هي الضمانة”، لا مسافة الكِبر أو التعالي، بل مسافة المهنة، التي تتيح لك أن ترى الصورة بأكملها، لا بعين واحدة.
لسنا أعداء لجمهورنا، ولا خصوما لأنديتنا، بل نحن في موقع من عليه أن يُنصت، ويُنقّب، ويُحلّل، لا أن يُغنّي مع الجوقة، أو من يبحث عن شرعية باسم هذا اللون أو ذاك..
قد لا نُغيّر كل شيء، لكن لعلّ التغيير يبدأ بسؤال نوجهه إلى أنفسنا، قبل أن نوجهه إلى غيرنا.
تعليقات ( 0 )