ربما كان على شكيب بنموسى أن يضع يده في “العصيدة” أولا، ليكتشف هول الاختلالات البنوية التي تعاني منها المنظومة التعليمية، ويقتنع بصعوبة بتنزيل الكثير من المقترحات التي جاء بها النموذج التنموي بعد استشارات واسعة شملت مختلف المتدخلين، بالرغم من أنها تحمل في واقع الأمر رؤية إصلاحية عميقة للمنظومة التعليمية التي يستحق المغاربة.
بعد مرور شهور على تعيين الحكومة، يبدو شكيب بنموسى تائها وسط غابة من الأعطاب المتراكمة، والتي يستحيل معها تحقيق أي تطور..فمن المدرس إلى التلميذ، مرورا بالمناهج والمؤسسات، تغرق المنظومة التعليمية في اختلالات لم تنجح الحكومة المتعاقبة في حل شفرتها.
في خلطة النموذج التنموي، قدم بنموسى عددا من المقترحات. فالنموذج ينطلق من فكرة أساسية تقول بأن جودة أي نظام تعليمي يحددها مستوى المدرسين العاملين به. ولإنجاح نهضته التربوية، يعتبر التقرير أن على المغرب إيلاء الأهمية الكبرى لتثمين هيئة التدريس والارتقاء بمستوى كفاءاتها وتأطيرها وفق معايير مهنية صارمة وجعل مهنة ووضعية المدرس أكثر جاذبية قصد اسـتقطاب الطلبة المتفوقين.
لهذا الغرض، أكدت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بأنه من الضروري الشروع في إجراء تغيير عميق في مهن التدريس، معتبرة أنه يمكن لاقتراحين ملموسين أن يساهما فـي إطلاق هذا التغيير.
لكن، وقبل الوصول إلى تغييرات على مستوى مهنة التدريس، فإن هذا القطاع الاجتماعي والاستراتيجي يعاني من احتقان كبير في ظل وجود ضحايا العديد من الأنظمة والمراسيم التي صدرت في مراحل مختلفة، خلفت من ورائها آلاف المتضررين.
فمنذ أول يوم له في مقر باب الرواح، وجد الوزير شكيب بنموسى نفسه أمام احتجاجات شبه يومية لأساتذة بمطالب فئوية مختلفة..بين ضحايا الأنظمة الأساسية، والدكاترة والأساتذة المقصيين من خارج السلم، وأساتذة الزنزانة 10، والمساعدون الإداريون والتقنيون.
في المحصلة، نحن أمام حوالي 30 ملف ينتظر التسوية..وكلما تأخرت المعالجة، استمر الاحتقان والاحتجاج، في وقت تبدو النقابات عاجزة عن دفع الوزارة المعنية إلى تحقيق المطالب، بالنظر إلى كلفتها المالية.
التعاقد..آخر الأعطاب
بينما لم تجد الحكومات حلولا عملية لعديد المطالب الاي يرفعها مهنيو قطاع التربية الوطنية، دفعت حكومة عبد الإله بنكيران بمشروع التوظيف بالتعاقد من أجل الاستجابة لمشكل طارئ ارتباط بالاكتظاظ داخل المؤسسات التعليمية.
وفي وقت استطاعت الحكومة أن تحل هذا الإشكال على حساب الجودة، فقد وضعت في المقابل لغما حقيقيا على طريق مختلف الحكومات المتعاقبة، في ظل مطلب أساسي للمعنيين يهم الإدماج في الوظيفة العمومية.
هكذا، وبدل التركيز على جودة التعلمات والمناهج والتكوين الصلب للمدرسين، صار النقاش اليوم يرتكز حول كيفية تفكيك قنبلة تهدد الموسم الدراسي بأيام وأسابيع بيضاء يخوض فيها المعنيون إضرابات ومسيرات احتجاجية.
لكن الواضح هو أن الحكومة ليس لديها أي تصور لحل هذه الأزمة. فبعدما تحدثت في بداية تعيينها عن “مستجدات” تهم هذا الملف، بعد الضجة التي أثاره الوزير المنتدب في الميزانية، أظهر مشروع قانون المالية 2022 والقرارات التي اتخذها الوزير بخصوص تدبير مباريات التعاقد أن الحكومة الحالية لازالت متشبثة بهذا النمط من التوظيف.
7500 درهم تتبخر
قبل حتى أن تنطلق الحملة الانتخابية، خرج عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، بتصريحات أكد فيها أن حزبه وضع قضية التعليم من بين أولى الأولويات، ضمن برنامجه الانتخابي الهادف إلى الفوز بالاستحقاقات التشريعية والجماعية المقبلة.
واعتبر أخنوش أن حزبه يعتبر أن الأساسي في تدبير قطاع التعليم، هو توفير تعليم عمومي جيد، مع ضمان تكافؤ الفرص، مشددا على ضرورة تحفيز رجال التعليم للوصول إلى هذه النتيجة.
وتابع زعيم “الأحرار”، وهو يقدم الوعود، بأن حزبه يسعى إلى رفع أجور الأساتذة الجدد لتصل إلى 7500 درهم حال تعيينهم، مع إعمال آليات لانتقاء أحسن المترشحين لشغل هذه الوظيفة.
وبالنسبة للأساتذة القدامى، اعتبر أخنوش أنه سيكون عليهم إجراء تكوينات وتداريب، قبل رفع أجورهم.ومن جهة أخرى وعد أخنوش بمنح 300 درهم شهريا لكل الأسر التي تتوفر على تلميذ متمدرس.
اليوم، وبعد مرور أزيد من ثلاثة أشهر على تعيين الحكومة، بات في حكم المؤكد أن هذه المطالب أصبحت من الماضي..وتبخرت كما تتبخر مختلف الوعود الانتخابية التي تكون الغاية منها استقطاب الأصوات الانتخابية ليس إلا.
إصلاح الإصلاح
من أعطاب المنظومة التعليمية أن الحكومة التي تتولى التدبير، تسارع إلى تجاوز المشاريع التي انطلقت في عهد سابقتها، لتدخل المنظومة من جديد في مرحلة من التخبط بحث عن ترقيعات بدون أثر.
لقد كانت تجربة البرنامج الاستعجالي واضحة وكاشفة بأن التفكير في طبيعة التعليم الذي نريد أولى من توفير الموارد بدون رؤية واضحة. فخلال فترة وجيزة، تبخرت ميزانية ضخمة تقدر بـ43 مليار درهم، وتحول بعض المسؤولين بقدرة قادر من موظفين صغار في هذا القطاع الاجتماعي إلى “أثرياء” القوم بعدما نالوا من “الكعكة” نصيبهم.
وقد خلص المجلس الأعلى للحسابات إلى أن المخطط الاستعجالي لوزارة التربية الوطنية لم يحقق جميع أهدافه ولم يكن له التأثير الإيجابي المتوقع على منظومة التربية باعتبار أن الوزارة المعنية لم تعتمد بشكل كاف بعض المرتكزات اللازمة لإنجاح أي سياسة عمومية عند مراحل التخطيط والبرمجة والتنفيذ والحكام.
إن التفكير اليوم في ورش للإصلاح أن ينبغي أن ينم، اول وقبل كل شيء، بعيدا عن الحسابات المالية والموارد..فالأهم في المرحلة الأولى هو نعرف طبيعة التعليم الذي نريد..وطبيعة التلميذ الذي نريد من أجل المغرب الذي يطمح إليه الجميع..آنذاك، يمكن البحث عن الموارد المالية التي سنوجهها بناء على تصور واضح لهذا القطاع، وليس بناء على رؤى مرحلية لا تخدم المنظومة.
جمرة التعليم.. احتقان اجتماعي مزمن وملفات معقدة تنتظر الحسم

تعليقات ( 0 )