حرية الصحافة في المغرب..حين تتحول التعددية إلى واجهة..

صدر تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لسنة 2025، وفيه جاء المغرب في المرتبة 120 عالميا، متقدما بتسع درجات عن العام الماضي، لكنه لا يزال خلف دول إفريقية مثل السنغال وغانا والكوت ديفوار، بينما تتصدر موريتانيا الترتيب المغاربي إذ تتواجد في المركز (50 عالميا)، بينما يحتل بلد كجنوب إفريقيا المركز 27 عالميا..

تحسُّن رقمي قد يبدو في الوهلة الأولى مؤشرا إيجابيا، لكنه سرعان ما يتهاوى أمام عمق الملاحظات التي تضمّنها التقرير، والتي تخلُلص إلى أن “الجوهر لا يزال معتلا”، وأن التعددية الإعلامية ليست سوى واجهة تُجمّل صورة باهتة..

ففي المغرب، لا تزال الصحافة محاصَرة، ليس فقط بالقوانين التي تسمح بمحاكمتها خارج قانون الصحافة والنشر، بل أيضا بسياق سياسي واقتصادي يجعل الاستقلالية التحريرية ترفا نادرا، لا تدعمه البيئة القانونية ولا يحميه المجتمع.

فقد أشار التقرير إلى أن رئيس الحكومة عزيز أخنوش ووزير العدل عبد اللطيف وهبي، كانا حاضرين كعنصرين سلبيين في مشهد يتقاطع فيه النفوذ السياسي مع المال والإشهار، مما يؤثر على التعددية الحقيقية ويعزز آليات الرقابة الذاتية.

ليست هذه مجرد ملاحظات عابرة، بل خلاصات صادرة عن منظمة تُتابع حرية الإعلام في العالم بدقة، وتضع تقاريرها تحت المجهر الأممي، وهي حين تقول إن التعددية الإعلامية في المغرب “مجرد واجهة”، فهي تُحيل إلى مشهد متحوّر تُهيمن فيه مؤسسات بعينها تغرف يمينا وشمالا، بينما يئن العديد من الصحفيين أو ما تبقى منهم ممن هم قادرون على إنتاج فائض القيمة تحت وطأة الأزمة المالية، والتهميش.

لكن هذه الصورة لا تخص المغرب وحده. فالعالم بدوره يشهد تقهقرا واسعا في منسوب حرية الصحافة.

ولأول مرة في تاريخ تصنيف “مراسلون بلا حدود”، تُصنّف نصف دول العالم كمناطق تصعب فيها ممارسة الصحافة أو تصبح خطرة للغاية، فيما أصبح المعدل العام لمؤشر الحريات الإعلامية ينخفض إلى ما دون 55 نقطة، أي ضمن خانة “الوضع الصعب”، والأكثر دلالة أن 112 دولة من أصل 180 تراجعت في تصنيفها هذا العام.

حتى الدول التي كانت تُقدَّم كنماذج، لم تسلم، ففي الولايات المتحدة مثلا، التي حلت في المرتبة 57، تحوّلت مناطق واسعة إلى ما وصفه التقرير بـ”صحارى معلوماتية”، بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت الصحافة المحلية، فقد أكد 75% من الصحفيين في ولايات كأريزونا وفلوريدا ونيفادا وبنسلفانيا أن الاستدامة الاقتصادية لمؤسساتهم الإعلامية مهددة، وأن الصحافة لم تعد مهنة قابلة للاستمرار.

هذا التراجع يطرح سؤالا مؤرقا.. إذا كانت الصحافة تتراجع في الأنظمة الديمقراطية المستقرة، فما بالك بالمجتمعات التي لم تُحصّن بعد استقلالية إعلامها؟

في المغرب، يبدو الوضع أشد تعقيدا. فالمعركة ليست فقط مع السعي إلى التحكم في سردية الإعلام، بل أيضا مع سوق لا يُكافئ، ومع جمهور يستهلك الصحافة دون أن يكون مستعدا للدفاع عنها حين تتعرض للتهديد أو التشويه.

لقد أضاء العفو الملكي الأخير عن الصحفيين توفيق بوعشرين، وعمر الراضي، وسليمان الريسوني، شعاع أمل، لكنه لا يُلغي حقيقة أن البيئة العامة مشحونة بالخوف والتردد والرقابة الذاتية.

والأدهى، أن هذا المناخ سمح بنشوء ظاهرة معاكسة..صحفيون يُدجّنون أنفسهم، يمارسون رقابة على أقلامهم قبل أن يُمارسها عليهم غيرهم.
لكن المسؤولية لا تقع على السلطة فقط. فجزء من الجسم الصحفي انزلق إلى ممارسة تفتقر للصرامة المهنية..

تعميمات بلا دليل، اتهامات أشبه برجع صدى، دون قرائن، وخطابات انفعالية تُضعف من مصداقية المهنة، وتُوفر الذرائع لضرب الصحافة برضا مجتمعي ضمني أحيانا، فالحرية لا تعني الفوضى، وليست هي “الترند”، أو السعي الدائم لتصدره ولو على حساب المهنة..
إننا اليوم أمام مفترق حقيقي..إما أن ننتصر لصحافة مسؤولة كضرورة ديمقراطية، أو نتركها تُدفن بهدوء في رمال الصمت.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي