إعلان إسلام أباد لتعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة.. الأبعاد الحضارية والإنسانية

احتضنت مدينة اسلام أباد الباكستانية يومي 11-12 يناير 2025 المؤتمر العالمي: “تعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة: التحديات والفرص”، الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع رئاسة الوزراء بجمهورية باكستان الإسلامية. وشهد المؤتمر مشاركة دولية وازنة بحضور ممثلي عدد من المنظمات الدولية، والحكومات والمنظمات الإسلامية، وكبار القيادات الدينية والفكرية والإعلامية، ونشطاء المجتمع المدني من مختلف دول العالم. وأكدت رابطة العالم الإسلامي أن تنظيم المؤتمر يندرج في إطار التزامها بالاسهام في نهضة الشعوب الإسلامية، والدفع بتعليم الفتيات وفق مفهومه الإسلامي الحقيقي، وإيجاد حلول ناجعة للعوائق التي تعترضه، والتصدي للمفاهيم المغلوطة بشأنه. وأوضحت الرابطة أن المؤتمر يمثِّلُ رسالة إسلامية إلى العالم أجمع، بأنَّ الإسلام بوصفه دين العلم والحضارة ومكارم الأخلاق، يدعم بوضوحٍ كل القوانين والممارسات المهنية والمشروعة التي تُمكِّن الفتيات من التعليم، وأنَّ أي تشريعات أو ممارسات “لأفراد أو جماعات” تحول دون ذلك؛ هي دخيلةٌ على الإسلام، والتعاليم الإسلامية بريئةٌ منها. واستلهم المؤتمر في مرجعيته مضامين الوثيقتين التاريخيتين لرابطة العالم الإسلامي ” وثيقة مكة المكرمة ” و ” وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية “. وهما وثيقتان أكدتا على ضرورة تمكين المرأة في التعليم بكافة مراحله التزاما بما نص عليه الدين الإسلامي الحنيف.
وتميز المؤتمر بعقد “جلسة علمائية” كانت مغلقة وخصصت لدراسة موضوع حق الفتيات في التعليم دون سقف محدد ولا شروط معيقة، والتي شارك فيها عدد من كبار مفتي العالم الإسلامي، وأعضاء هيئات ومجالس العلماء، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. وفي ختام أعمال المؤتمر تم إطلاق مبادرات ووضع خططٍ لمواجهة التحديات، واغتنام الفرص المتاحة للنهوض بتعليم الفتيات، والارتقاء به في المجتمعات المسلمة، كما تم توقيع عدد من الاتفاقيات بين الجهات المعنية بتمكين الفتيات من حقهن في التعليم .كما تم اعتماد ( إعلان اسلام أباد لتعليم الفتيات في المجتمعات الإسلامية )الذي تضمن 17 توصية تمحورت حول أربعة أبعاد أو مجالات هي البعد الديني الشرعي، والثقافي الإعلامي، والحقوقي القانوني ، والتربوي العلمي . وقبل توضيح مضامين هذه الأبعاد الأربعة ، لابد من الإشارة إلى السياق المحلي والدولي المتعلق بمشكلة تعليم الفتيات .
في العالم الإسلامي ،مازالت مشكلة تعليم الفتيات تعد من أكبر التحديات التي تعيق تنمية المجتمعات المسلمة ، بالنظر إلى كون الإحصاءات تؤكد أن نسبة الأمية بين النساء مرتفعة في أغلب الدول الإسلامية. ومن المفارقات أن ذلك يحصل في أمة تدعو شريعتها الإسلامية إلى وجوب العناية بتعليم المرأة وتثقيفها وجعلت التعليم واجبا دينيا ، وحقاً راسخاً لا يجوز لأحد أن يحرمها منه أو يضع المعوقات في طريقها .ومن المبادرات المهمة في العالم الإسلامي إنشاء مؤسسة “ملالا العالمية ” والتي تعمل لهدف مركزي واحد عالميا وهو دعم كل الجهود لتوفير فرص التعليم للفتيات . وترتبط هذه المؤسسة بالشابة الباكستانية مالالا يوسفزاي التي أصبحت رمزاً عالمياً للكفاح من أجل تعليم الفتيات بعد أن أطلقت عليها حركة طالبان الرصاص في عام 2012 لمعارضتها القيود المفروضة على تعليم الإناث وشاركت مالالا ووالدها في تأسيس صندوق ملالا للتوعية بالأثر الاجتماعي والاقتصادي لتعليم الفتيات وتمكين الفتيات من المطالبة بالتغيير. وفي عام 2014 حصلت مالالا على جائزة نوبل للسلام منذ تأسيسها. وعينها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس رسولاً للسلام للأمم المتحدة . وكانت هذه الناشطة العالمية في تعليم الفتيات، من بين ضيوف الشرف في المؤتمر العالمي: “تعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة: التحديات والفرص”، حيث قدمت الرسالة الرئيسة لمبادرة رابطة العالم الإسلامي: ‫مبادرة تعليم الفتيات ‬ في المجتمعات المسلمة من العاصمة الباكستانية “إسلام آباد”، من خلال محاضرةٍ شاملةٍ، وحظيت بتكريم من الأمين العام للرابطة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى ، اعترافا بجهودها العالمية في الدفاع عن حق الفتيات في التعليم وتقديرا لاسهامها في التوعية بمخاطر حرمان الفتيات من مواصلة تعليمهن.
وعلى الصعيد الدولي ،اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر من عام 2011 قرارا يعترف بحقوق الفتيات في حياة آمنة وصحية والانتفاع بالتعليم ، وأعلنت عن “اليوم الدولي للطفلة” لتعزيز الاهتمام بضرورة التصدي للتحديات التي تواجهها الفتيات وتعزيز تمكينهنّ وإحقاق حقوق الإنسان المكفولة لهن. وأشار البنك الدولي إلى أن ضمان حصول جميع البنات والشابات على تعليم جيد حقُ من حقوقهن الإنسانية وإحدى أولويات التنمية العالمية وكذلك أولوية إستراتيجية للبنك الدولي ، وأشار أنه حريص على أن تكون كل مشاريعه التعليمية مراعية للمساواة بين الجنسين، ويعمل للتغلب على العوائق التي تحول دون استفادة الفتيات والأولاد من استثمارات البلدان في التعليم على نحو متساوٍ. وتشير التقديرات في دراسة حديثة للبنك الدولي إلى أن “محدودية فرص تعليم البنات، والعوائق أمام إكمالهن 12 سنة من التعليم، تكلفان البلدان ما بين 15 و30 تريليون دولار في صورة إنتاجية وأرباح مفقودة على مدى العمر”. ويمكن أن تساعد كل هذه العوامل مجتمعة على انتشال الأسر والمجتمعات المحلية والبلدان من براثن الفقر.
ومن جهتها أكدت منظمة اليونسكو أن التخلف عن المدرسة وأوجه القصور في التعليم، يكلف الاقتصاد العالمي عشرة آلاف مليار دولار أمريكي سنوياً، وأعلنت أن أكثر من 250 مليون فتاة وفتى لا يزالون مستبعدين من النظام المدرسي في شتى أنحاء العالم . وحسب تقديرات اليونسكو، هناك 129 مليون فتاة غير ملتحقات بالمدارس في مختلف أنحاء العالم، منهن 32 مليونا في سن الدراسة الابتدائية، و97 مليونا في سن الدراسة الثانوية. وأشارت اليونسكو إلى أن الفقر يمثل أكثر العوامل أهمية وراء تحديد ما إذا كان بإمكان الفتاة أن تحصل على التعليم وتكمله أم لا. كما يمنع العنف الفتيات من الحصول على التعليم وإكماله – عادة ما تضطر الفتيات إلى قطع مسافات طويلة سيرا إلى المدرسة مما يزيد تعرضهن لمخاطر العنف كما تتعرض الكثيرات للعنف أثناء وجودهن بالمدرسة. وتمثل ظاهرة زواج الأطفال تحديا بالغ الأهمية حيث إن الفتيات اللاتي يتزوجن في سن صغيرة تزداد احتمالات تسربهن من المدرسة، ويكملن سنوات أقل من التعليم من نظيراتهن اللاتي يؤخرن زواجهن.
وإجمالا فإن المجتمع الدولي ، من خلال قرارات وتقارير المنظمات الحكومية وغير الحكومية ، أصبح اليوم أكثر اقتناعا بأن التعليم يعاني اليوم أزمة عميقة في المساواة والشمول والأنصاف والجودة علي ، وأن الالتزام بتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة يستلزم حصول الفتيات على تعليم جيد كحق من الحقوق الأساسية ، والحصول علي فرص إتمام جميع مراحل التعليم ودخول سوق العمل. وازداد الاقتناع المجتمع الدولي بأن نسبة كبيرة من الفتيات في المجتمعات النامية تواجهن عوائق الفقر والأعراف الاجتماعية والتقاليد البالية والظروف الاقتصادية الصعبة.
وبذلت الحكومات في دول العالم الإسلامي جهوداً كبيرة في العقدين الأخيرين ، حيث تبين التقارير الرسمية نجاحا مضطردا في نسبة التحاق الفتيات بالمدارس في هذه الدول . غير أن تلك الجهود غير كافية وتحتاج لمزيد من المتابعة والاهتمام ، خاصة في الدول التي مازالت تعاني من هذا المشكل بسبب طغيان المعتقدات الاجتماعية ، وانتشار الأفكار المتطرفة الضاربة في الغلو والتعصب اتجاه الفتيات والنساء عموما ، أو بسبب الحروب والنزاعات المسلحة.


ومن المخرجات البارزة للمؤتمر العالمي: “تعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة: التحديات والفرص” توقيع 16 اتفاقية و6 إعلانات تعهد داعم لتعليم الفتيات ، في إطار منصة الشراكات الدولية لتعليم الفتيات التي تقدم مشروعات عملية وبرامج فاعلة في معالجة قضية تعليم المرأة والفتيات في العالم الإسلامي . وتتضمن هذه المشروعات تقديم الدعم المباشر ، والمنح الدراسية ، وبناء القدرات، وإعداد الدراسات والبحوث والتقارير ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن تعليم الفتيات ، والحماية الاجتماعية والنفسية والدعم الصحي للفتيات.
وتتمحور التوصيات الصادر عن المؤتمر حول أربعة أبعاد هي البعد الديني الشرعي، والبعد الثقافي الإعلامي ، والبعد الحقوقي القانوني ، والبعد التربوي العلمي. ويمكن تصنيف هذه الأبعاد الأربعة وتوصياتها على النحو التالي :
1 – البعد الديني الشرعي:
– إجماع علماء الأمة الإسلامية بمختلف مذاهبهم ومدارسهم قديما وحديثا على أن تعليم المرأة حق مشروع انطلاقا من هدي الشريعة الذي جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة .
– تعليم الفتيات حق أصيل دعت إلى صيانته الشرائع الإلهية ,وأوجبته تعاليم الإسلام .
– رفض إرجاع أي تحفظ حول تعليم الفتيات للشريعة الإسلامية وخطورة المجازفة بتحريف دلالة النصوص الشرعية ومخالفة مقاصدها العليا لتسويغ أي مفاهيم مغلوطة حول تعليم المرأة
– ضرورة المشاركة الدينية الفاعلة والمؤثرة القادرة على توضيح الحقيقة الدينية حول قضية تعليم الفتيات
2 – البعد الثقافي الإعلامي:
– التحذير من الآراء والفتاوى والأفكار المتطرفة الناتجة عن عادات وتقاليد بعض المجتمعات التي تمنع تعليم الفتيات وتحتقر المرأة وتحرمها من حقوقها .
– دعوة المؤسسات الإعلامية الحكومية والأهلية إلى تنظيم حملات توعية وبرامج تثقيفية حول أهمية تعليم الفتيات بالتنسيق مع خبراء التربية والإعلام وبمشاركة علماء الدين والأئمة والمرشدين .
– دعوة المنصات الدينية بما فيها الدروس الدينية وخطب الجمعة للإسهام في التوعية بضرورة تعليم الفتيات والكف عن الإساءة للإسلام ولحقوق المرأة.
3 – البعد القانوني الحقوقي :
– دعوة المؤسسات التشريعية في الدول الإسلامية إلى الإسهام في تعزيز تعليم الفتيات من خلال إصدار القوانين والتشريعات والنظم الوطنية
– تضافر الجهود لحماية حق الفتيات في التعليم وضمان تأهيلهن .
– العناية بقرارات المجامع الفقهية الإسلامية وفتاوى الهيئات العلمائية حول حق المرأة الشرعي في تلقي العلم في مجالاته المتعددة ومراحله المختلفة ، ونشر تلك القرارات والفتاوى والتصدي للآراء الشاذة التي تستهدف هدا الحق الديني والفطري.
4 – البعد التربوي العلمي :
– الاستناد إلى أصول التربية الإسلامية ، لتأطير العملية التعليمية وفق الالتزام بالهوية ، مع استثمار التجارب والخبرات الوطنية والعالمية التي أسهمت في الارتقاء بالتربية والتعليم
– دعم جهود الدول الإسلامية من أجل تطوير التعليم في وسائله ومضامينه ، والتركيز على تعليم الفتيات بالخصوص ووضعه في طليعة الأولويات الوطنية ، التزاما بالتعهدات الدولية ذات الصلة بأهداف التنمية المستدامة.
– تعزيز المحتوى التعليمي الرقمي ودعوة المؤسسات التعليمية والمنظمات الدولية لتطوير محتوى رقمي يسهل وصول الفتيات إلى التعليم وخصوص في المناطق النائية.
– تقديم المنح الدراسية المجانية لإتاحة الفرص التعليمية للفتيات اللاتي يعانين من آثار الفقر والنزاعات والتحديات الاجتماعية.
– دعم الدراسات والبحوث العلمية التي تتناول تعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة وتستشرف أفضل السبل للارتقاء به ، والحد من المهددات التي تحول دونه.

د. المحجوب بنسعيد
باحث في الاتصال والحوار الحضاري / المغرب

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي