إصلاح الصحة يبدأ بالمستشفى العمومي وبحكمة الطبيب

انتقلت ميزانية الصحة العمومية إلى 31 مليار درهم سنة 2024 وهو رقم يمثل خمسة أضعاف ما كان الوضع عليه قبل عقد من الزمن. لا زالت سعر الأدوية ببلادنا أغلى من سعر دول أوروبية وخليجية. لا زال المال ” الاسود” وشيك الضمان حقيقة في كثير من المؤسسات. ولا زالت الصيدليات المغربية ممنوعة من الحق في استبدال الأدوية الواردة في الوصفات الطبية على أساس الاسم العلمي للدواء. وهذا الحق متاح في كثير من الدول، بما فيها الولايات المتحدة.
أعيد سماع كلمات رصينة نطق بها الملك الراحل الحسن الثاني أمام هيئات تمثيل الأطباء وطنيا وجهويا. لقد كانت هذه الكلمات نابعة من تجربة نضالية أثناء بناء حلم بناء مؤسسات المغرب خلال الفترة الإستعمارية. قال الملك، مخاطبا من خصهم باحترام خاص إلى جانب الأساتذة، أن الطبيب يجب أن يظل حكيما في علاقته بالمريض وبكل مكونات العملية الاستشفائية. وأشار، بكثير من الأناقة الفكرية، إلى ضرورة العمل على إثارة انتباه بعض ممتهني الطب إلى الطبيعة الخاصة للخدمة الطبية. الحكيم الطبيب إنسان من حقه تحقيق أرباح حين يمارس الطب خارج القطاع العام. وهذا الحق يجب أن يكون في إطار المعقول وعدم تحويل العلاجات إلى آلة لتحقيق أرباح كبيرة جدا. وهذا المبدأ يجب أن يسري على مهن وحرف كثيرة كالعقار والغذاء والتعليم.
ويظهر، بعد عقود من الزمن، أن الأمور تغيرت وتجاوزت كل الحدود الفاصلة بين ممارسة الطب كمهنة خاصة وبين ما تمليه الأعراف والأخلاق من حدود. تجاوزت الممارسات كل حدود الربح المعقول وأصبح الاستثمار في قطاع الصحة كغيره من الاستثمارات في مجالات التجارة والعقار. وتم إصدار القانون رقم 13- 131 الخاص بمزاولة مهنة الطب في فبراير 2015. ونص بعبارات واضحة وصريحة في البند الثاني على أن مهنة الطب لا يجوز، بأي صفة من الصفات، أن تعتبر مهنة تجارية يمكن أن يمارسها الطبيب مجردا من كل تأثير. وأكد المشرع في هذا البند الثاني، على ضرورة الإحترام التام لحقوق الإنسان ذات الصلة بحماية حقوق اللاجئ للخدمات والعلاجات الطبية. وجاءت قوانين أخرى تتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض غلبت كفة القطاع الخاص على حساب القطاع العام والقطاع التعاضدي.
ولنرجع قليلا إلى الواقع الصعب لممارسة الحق في التغطية الصحية. توالت القوانين الجميلة جدا لتدخل في فضاء التشريع في بلادنا. بدأنا بإطلاق التأمين الإجباري عن المرض. وفتحنا الباب الكبير لمشروع ” راميد” للفئات الهشة اجتماعيا.
وظهر، بعد ممارسة وتقييم، أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكبر. ركبنا قطار التغطية الصحية المتكاملة، وقال كل الفاعلين أن الأمر يتعلق يثورة حقيقية تتيح الولوج إلى العلاجات. ولكن المشكل الكبير يرتبط بالعرض الصحي العمومي المنهك أمام قطاع خاص أصبح يمتلك الوسائل التجهيزات بنسبة كبيرة مقارنة مع القطاع العام. ويقع هذا التطور برؤية ” متبصرة ” من طرف بعض مناصري اضعاف المستشفى العمومي والمدرسة العمومية والمرافق العمومية عموما. والمثال الصارخ يتعلق بقدرة ما توفر من مال للحصول على الخدمة الطبية، بكافة مكوناتها، بسرعة وانتظار شهور في المستشفى العمومي إذا غاب المال ولو حضرت التغطية الصحية. الاستثناء موجود ولكنه يظل استثناء. وللعلم فإن تمويل المصاريف الصحية يقع بالأساس على عاتق الأسرة بنسبة تتجاوز 56 %. وأغلب هذه الأسر هي تلك التي تعيش على التضامن العائلي والقروض لمواجهة تكاليف العلاجات.
أرجوكم يا من ابتلوا بمتابعة قضايا الشأن العام أن تكثروا من زياراتكم للمستشفى العمومي والمدرسة العمومية والإدارة العمومية. أذكر بالمبدأ أولا قبل التعرض للاستثناء الذي يقترب كل يوم من القاعدة. زوروا مواطنيكم في مناطق الهشاشة الاجتماعية، وأكثروا من متابعة المعاناة، لأن في المتابعة رحمة للمتقاعدين. سترون ما يسرنا ويسركم. يوجد في مضمار المرفق العام كثير من المؤمنين برسالة خدمة المواطن. يوجد داخل المرفق العام الصحي أساتذة ” صدقوا ما عاهدوا الله عليه “، وسيجدون من يهربون خلسة لإجراء عمليات جراحية في بعض المصحات الخاصة وقبول أجرتهم في ظلام دامس. وهناك، طبعا، من يلتزمون بأداء الواجب نحو ألله والوطن والمواطن كيفما كانت وضعيته الاجتماعية. لقد وصلنا، كدولة، إلى مستوى كبير من الرغبة في تعميم التغطية الاجتماعية. ولكن الأمر لن يستقيم دون عرض صحي في المستوى الذي يضع بلادنا في مراتب محترمة في مجال التنمية الاجتماعية. ومن شك في هذا الكلام، ادعوه لزيارة أكبر مستشفياتنا الجامعية. إذا كنت قادرا على الأداء مسبقا وانتظار شهور لاسترجاع نفقات الولوج إلى العلاجات والتحاليل وكل أشكال التصوير، فإنك قد نلت الرضى ووصلت إلى عتبة المنتخبين. أما ما تتيحه لك التغطية الصحية في إطار التأمين الإجباري عن المرض، فذلك فيه ما فيه من الكلام عن القدرة المالية للأسرة.
أؤكد على أن الدولة رفعت مستويات تمويل الصحة بشكل كبير ومتضاعف بالمليارات إلى أن إنتقلت الميزانية المخصصة للصحة من حوالي 5 مليار درهم قبل حوالي عقد من الزمن إلى حوالي 31 مليار درهم سنة 2024. ولكن توفير التمويل لا يعني توفير العلاجات. ومن شك في هذا، فليتوجه إلى المستشفيات الإقليمية والجهوية والجامعية. أؤكد، كما قال الشاعر المغامر مظفر النواب ” أن هذا الحمل من الاعباء ثقيل ومخيف “، ولكن الاختيار سهل وصعب ومريح. وجب رفع الكوابح في ولوج مهنة الطب وتحفيز من يريد مزاولتها. ووجب التذكير أن الحاصلين على الباكالوريا الأدبية خلال بداية السبعينات ولجوا إلى كلية الطب في الرباط ونجحوا في أداء مهامهم. أدخلنا مستشفياتنا في منظومة إدارية حولت كثيرا من الأطباء إلى إداريين. وتحولت عمليات شراء الأدوية إلى صراع بين مديريات مركزية تشتري، دون دراسة للحاجيات، كميات تزيد عن الحاجيات وتنتهي تواريخ صلاحيتها في مخازن الصحة العمومية .
نوجد اليوم في مفترق الطرق. ملك البلاد فتح الآفاق للرقي بالتغطية الصحية إلى مراتب أعلى ودعا كل الفاعلين من القطاعات الخاصة والعمومية والتعاضدية إلى الفعل على أرض الواقع. لا نريد منافسة هوجاء ومدعومة من طرف لوبيات لتغليب منطق الربح على قيم المرفق العمومي والمنظومة التعاضدية. نريد، كما نص عليه الدستور وخطابات صاحب الجلالة، تكامل القطاعات. تطوير الولوج الحقوقي والديمقراطي للعلاجات يوجد في قلب بناء مغرب التحديات والولوج إلى مستويات أعلى في مجال التنمية. نريد الكثير من الاستثمار المنتج للثروات وليس ذلك الذي يستغل المرض والهشاشة الاجتماعية لكي يسيطر ويتمدد ويحقق أرباحا لا يمكن أن تصنف في مجالات الحلال بثقله الاجتماعي والتضامني والداعم لدولة الحق والقانون. سيسرنا إفتتاح مركب صحي جامعي بالرباط بعد أكثر من حوالي 400 يوم سنكون، إن شاء الله، في قمة الفخر والتعبير عن الانتماء، حين سيتميز وطننا بتحقيق كل مؤشرات التنمية الاجتماعية.
وسيظل المستشفى العمومي هو مركز الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين. ولن تكتمل الدورة التضامنية الاجتماعية إلا بربط حقيقي وكامل بين أنظمة التغطية الصحية والولوج إلى العلاجات بشكل فعلي يفتح باب كل مصالح المستشفى أمام من لا قدرة له على الدفع المسبق لمصاريف بآلاف الدراهم. ويظل الالتزام بقضايا الوطن في المجال الاجتماعي مرتبطا بأخلاقيات في مجال ممارسة مهنة الطب بعيدا عن قواعد التجارة وقانون العرض والطلب وقريبا من ضمان الدخل اللائق لمهنيي الصحة. الأمر يتطلب كذلك عدم التضييق على المبادرات التضامنية التي تستهدف الصحاري الطبية والأحياء الهامشية ودعم التعاضديات وكل أشكال الاقتصاد الاجتماعي التضامني في مجال الصحة والإسهام في تمويل عمومي للقوافل الطبية. كل هذا بالإضافة إلى التخفيف من غلاء الأدوية والمستلزمات الطبية والتحليلات وأسعار خدمات المستشفيات الخاصة بما فيها تلك التي تعتبر ملكية لمؤسسات معفاة من الضرائب والتي لا تخضع لمراقبة خارجية.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي