احتضنت مدينة كوالامبور يوم 7 مايو الجاري مؤتمرا دوليا للقادة الدينيين، عقدته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع رئاسة الوزراء في ماليزيا تحت عنوان: “تعزيز الوئام بين أتباع الأديان”. وترأس افتتاحه دولة رئيس وزراء ماليزيا، الداتو سري أنور بن إبراهيم، والأمين العام للرابطة، رئيس هيئة علماء المسلمين، الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، وحضره أكثر من 2000 شخصية دينية وفكرية من 57 دولة. وبذلك كان هذا المؤتمر أضخم تجمع ديني دولي في القارة الأسيوية. وسعى المؤتمر إلى إبراز أهمية الدِّين في تعزيز السَّلام العالمي، وترسيخ التضامن بين الشعوب، واستكشاف سُبُل التعاوُن الحضاري، إضافةً إلى إطلاق مبادراتٍ منبثقةٍ عن “وثيقة مكة المكرمة”، وتسليط الضوء على القِيَم الدينيّة النبيلة. وتمحورت جلسات عمل المؤتمر حول عدد من القضايا والمواضيع التي تشغل بال المجتمع الدولي اليوم من بينها التعددية والتسامح والوسطية والتعليم وبناء الجسور والمُشتركات الجامعة. وأكدت الامانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن انعقاد المؤتمريندرج في إطار جهود ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي لتأسيس منصَّة دينية عالمية، تُعزز سبل التعاون الحضاري القائم على مشتركاتٍ جامعة، وتضع خارطةَ طريقٍ لترسيخ الوئام بين أتباع الأديان الذين يشكّلون غالبية شعوب العالم، وحلِّ مشكلات التعايش برُؤيةٍ تضامنية، مُشبَعةٍ بروح المسؤولية.
وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، قال الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إن ” عالمنا المتنوع بحاجةٍ إلى قيادات دينية لها أثرٌ ملموسٌ، تُسهِم من خلال جهودها الصادقة والفاعلة في تعزيز سلامه ووئام مجتمعاته، محذِّرًا من أنَّ هذا الوقت يمثل زمنًا حساسًا مُثقَلاً بالمتاعب والمخاطر ولا يحتمِل أي لحظة إهمال أو تقصير”. وفي البيان الختامي للمؤتمر تم التأكيد على أهمية دور أتباع الأديان بالإسهام في تعزيز السلام والوئام، وأن مهمّةُ القادة الدينيين هي استدعاء النماذج الحضارية التي تَبْني جسور التعاون والسلام بين الجميع لصالح الجميع. كما شدد البيان على أنَّ التنوع الديني والثقافي يستدعي إقامةَ شراكةٍ حضارية فاعلة؛ وتواصُلاً بنَّاءً، ضمن عقْد اجتماعي مشترك، يستثمر تنوع الرؤى في خدمة الإنسانية، وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة، وأنَّ التحالف الديني والتبادل الثقافي لتحقيق الأهداف الحضارية المشتركة هو الأنموذج الأكمل لتخليص عالَمنا من تهديدات صدامه وصراعاته ذات الصلة. ودعا البيان المؤسسات التابعة للأديان الكبرى في العالم، إلى التعاون والتنسيق فيما بينها في خدمة المشتركات الإنسانية، واحترام الخصوصيات الدينية والثقافية، وتشجيع الخطاب الوسطي المعتدل الذي يُبرز سماحة التدين ليعزز أواصر التضامن والتآخي بين المجتمعات الإنسانية، ونبْذ الخطاب المتطرف الذي يثير الكراهية، ويُوظّفُ الدين في افتعال الأزَمَات وتأجيج الصّراع. وأوصى المشاركون في المؤتمر بتكوين لجنة عليا للمؤتمر تضمّ قادة دينيّين وخبراء ومفكرين، برئاسة مجلس الوزراء الماليزي والأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، تتولّى تشكيل فِرَق عملٍ متخصصة تحقق أهدافها، بما في ذلك الدفع نحو وقف الحروب والنزاعات، عبر إرسال الوفود الممثلة للجنة العليا ومخاطبة الحكومات والمنظمات الدولية حول العالَم، وفي مقدمة ذلك التدخل الفوري والعاجل لإيقاف الحرب في غزَّة، والالتزام بما تُمليه العهود والمواثيق الأممية والحقوقية، والعمل على إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، وضمان نيل حقوقه المشروعة. كما أوصوا هذه اللجنة بإنشاء منصة إعلامية تتبَع للجنة العليا للمؤتمر، لتفعيل دور الإعلام في تعزيز الوعي باستيعاب السنة الكونية في التنوع بين الشعوب والحضارات، إضافة إلى فتْح قنَوات مبتكرة للتواصل بين المكونات المختلفة حول العالم، وتشجيع مبادرات التآخي حول المشتركات وتفكيك الخطابات العنصرية والإقصائية. وتم اعتماد المؤتمر ليكون قمةً سنويةً تحت مسمى “قمة كوالالمبور للقادة الدينيين”
إن مشاركة رابطة العالم الإسلامي في تنظيم هذا المؤتمر تؤكد بالملموس دورها الريادي الفاعل في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وتبرهن للعالم أنها أضحت من أهم المنظمات الدولية التي تدافع عن الرسالة النبيلة والحضارية للأديان. لقد واظبت الرابطة منذ عام 2017 على تنفيذ ملتقيات فكرية دولية من المستوى الرفيع لمناقشة أبرز القضايا والمواضع المتصلة بالأديان، من بين أهمها :
• ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان (الرياض .مايو 2022)، حيث تم اعتماد ” إعلان القيم الإنسانية المشتركة ” الذي دعا المؤسسات الدينية حول العالم إلى المساهمة في تشجيع الخطاب المعتدل الذي يبرز السماحة والتسامح الديني ونبذ الخطاب المتطرف الذي يثير الكراهية ويوظف الدين في افتعال الأزمات وتأجيج الصراعات .كما أدان ” إعلان القيم الإنسانية المشتركة ” الممارسات المتطرفة والعنيفة والإرهابية في حق أتباع الأديان ودعا إلى تجريم النيل من رموزها ومقدساتها، ودعا الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى أقرار يوم عالمي للمشتركات الإنسانية.
• قمة الأديان لمجموعة العشرين ( بالي الأندونيسية. أكتوبر 2022) التي اعتمدت للمرة الأولى ضمن جدول الأعمال الرسمي لقادة مجموعة العشرين (G20)، وشاركت في هذه القمة قيادات دينية من دول العشرين وغيرها، وكبار المتخصصين في المجال الديني والفكري والثقافي والمجتمعي والسياسي، ولا سيما الأحزاب السياسية واللجان البرلمانية المرتبطة أعمالها بالشؤون الإنسانية والاجتماعية. وفي ختام أعمال هذه القمة تم إطلاق “منتدى بناء الجسور بين الشرق والغرب: من أجل عالمٍ أكثرَ تفاهمًا وسلامًا، ومجتمعاتٍ أكثرَ تعايُشًا ووئامًا”.
• الاجتماع العالمي للقمة الدينية (كيوتو اليابانية. ديسمبر 2017 ) الذي شارك فيه عدد كبير من قساوسة طائفة تانداي البوذية، ومن ممثلي المؤسسات والطوائف الدينية في العالم. وكان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي متحدثا رئيسا في الجلسة الافتتاحية حيث أكد ” أن الدعوة إلى التعايش والسلام من خلال أمثال هذه اللقاءات المهمة والتاريخية، هي دعوة شريفة إنسانية في مطالبها، واضحة في أهدافها، قوية في حججها ومؤيداتها الواقعية” . وأوضح أن رابطة العالم الإسلامي لا تحمل هموم العالم الإسلامي فحسب، وإنما تحمل هم الإنسانية جمعاء، فرسالة الإسلام إنسانية عالمية تسعى فيما تسعى إليه للدفاع عن الحقوق والحريات بالأساليب المشروعة كما تحرص على تطبيق المواثيق العادلة التي قررتها المواثيق والاتفاقات والصكوك والمبادئ والأعراف الدولية.
• ملتقى دور أتباع الأديان في تعزيز السلام والوئام بمدينة جنيف (ديسمبر 2017) الذي حضره كبار المفكرين والكتاب والدبلوماسيين والمهتمين بالتواصل الحضاري بين الثقافات والأديان، ولاسيما القياداتُ الدينيةُ بتنوعها. وفي ختام أعماله دعا الملتقى إلى رفع شعار عالمي جديد بعنوان “سلام بعض المجتمعات هو سلام كل المجتمعات”، وأوصى بتكثيف اللقاءات الإسلامية مع علماء الأديان الأخرى لدراسة المسائل والإشكالات العالقة، والتحرر من مؤثرات الصراع التاريخي بين أتباعها. وأكد الملتقى على ضرورة الاعتراف بإمكانية التعايش واللقاء بين الأديان والثقافات المختلفة رغماً عن عمق الاختلاف، والعمل مع الفعاليات السياسية والاجتماعية والحقوقية لاحترام الخصوصيات الدينية أو الثقافية للأقلية والأكثرية
من خلال الإشارة إلى هذه الفعاليات الدولية وما صدر عنها من إعلاينات وتوصيات، يتبين أن لرابطة العالم الإسلامي رؤية فكرية استشرافية واضحة تنطلق من ثوابت الدين الإسلامي، وتنفتح على المتغيرات الدولية، وتواكب الانشغالات والتحديات التي يواجهها المجتمع الدولي. وعلى هذا الأساس تواصل الرابطة، بإدارة حكيمة ومتبصرة من أمينها العام الدكتور محمد عبد الكريم العيسى وبمؤازرة نافعة من مساعديه من الكفاءات العلمية والإدارية والإعلامية، بذل جهود حثيثة داخل العالم الإسلامي وخارجه، من أجل الاستثمار الأمثل والأنجع للمشتركات الإنسانية وتوجيهها لتحقيق التعاون مع الآخر، والإسهام في تعزيز الاستقرارالاجتماعي، وترسيخ الاعتدال العالمي، ومكافحة العنف والتطرفـ وتقوية علاقات التعاون والتفاهم والتسامح والمحبة بين أتباع الأديان.
د. المحجوب بنسعيد
باحث في الاتصال والحوار الحضاري
تعليقات ( 0 )