في وثيقة مكة المكرمة التي اعتمدها 1200 عالم ومفكر من مختلف المذاهب والطوائف الدينية في العالم الإسلامي في ختام أعمال المؤتمر الإسلامي الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة شهر مايو 2019 بعنوان (قيم الوسطية والاعتدال في نصوص القرآن والسنة) ، تم التأكيد على أن ” الصراع والصدام يعمل على تجذير الكراهية ، واستنبات العداء بين الأمم والشعوب ،ويحول دون تحقيق مطلب العيش المشترك ، والاندماج الوطني الإيجابي ، وبخاصة في دول التنوع الديني والإثني ” . كما أوضحت الوثيقة أن ” تحقيق معادلة العيش المشترك الآمن بين جميع المكونات الدينية والإثنية والثقافية على اتساع الدائرة الإنسانية يستدعي تعاون القيادات العالمية والمؤسسات الدولية كافة ”
واستلهاما لتوجهات وثيقة مكة المكرمة ، وانطلاقا من الرسالة الحضارية لرابطة العالم الإسلامي الهادفة إلى التعريف بحقيقة الإسلام ، ونشر ثقافة السلم لتحقيق الأمن المجتمعي ، والدفاع عن الحقوق الدينية والثقافية والاجتماعية للجاليات المسلمة عبر العالم ، تم إنشاء مجلس للقيادات الإسلامية في أمريكا الشمالية والجنوبية . ويعد الأولَ من نوعه في تاريخ الأمريكتين ، ويشمل عموم المذاهب والطوائف الإسلامية التي أقرَّت وثيقة مكة المكرمة . وقد ترأس الشيخ الدكتور محمد العيسى الأمين العام، لرابطة العالم الإسلامي ، رئيس هيئة علماء المسلمين، اجتماعَ هذا المجلس يوم 24 يناير 2024 في المركز الإسلامي بواشنطن. وتدارس الاجتماع مشروع برنامج تدريب الأئمة على “وثيقة مكة المكرمة”، ونشرها والتعريف بها بين أوساط من أبناء الجالية المسلمة المقيمة في دول أمريكا الشمالية والجنوبية . كما ناقش الاجتماع عددًا من الخطط المستقبلية للمجلس، وآليات توثيق وتعزيز التواصل بين المؤسسات الإسلامية وتنسيق جهودها المشتركة.
لم يتم تأسيس مجلس للقيادات الإسلامية في منطقة أمريكا الشمالية والجنوبية بين عشية وضحاها ، بل هو ثمرة اشتغال استراتيجي حكيم ومتبصر قام به الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي في هذه المنطقة على مدى سنوات ، وذلك في إطار تنفيذ ميثاق رابطة العالم الإسلامي الهادف إلى التعريف بالإسلام وبيان حقائقه وقيمه السمحة، والعناية بالتواصل الحضاري ونشر ثقافة الحوار، والاهتمام بالأقليات المسلمة وقضاياها، والتواصل معها لعلاج المشكلات التي تواجهها في حدود دساتير وأنظمة الدول التي يوجدون فيها. لقد نفذت الرابطة في الولايات المتحدة الأمريكية عددا مهما من الأنشطة الديبلوماسية والأكاديمية تم بواسطتها التواصل مع ممثلي الجاليات المسلمة من رؤساء الجمعيات والمراكز ثقافية و المفتين والأئمة ، ودراسة عدد من القضايا التي تهم الجاليات المسلمة في أمريكا في المجالات الدينية والثقافية والمدنية والقانونية والسياسية .
ومن بين أهم تلك الأنشطة تنظيم مؤتمر دولي بعنوان “التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي” في شهر سبتمبر 2017 في مدينة نيويورك الأمريكية، بمشاركة منظمة الأمم المتحدة، وحضور 450 عالمًا ومفكرًا يمثلون 56 دولة وكبرى المؤسسات الفكرية والثقافية الإسلامية والأمريكية. وقد طلب المشاركون في المؤتمر من رابطة العالم الإسلامي التعاون مع الجمعيات والمنظمات والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، لتنفيذ برامج مشتركة هدفها تحقيق التواصل الإيجابي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأمريكية، وتطوير الحوار البيني بما يراعي المصالح المشتركة، ويعالج مشكلات المجتمعات المعاصرة. كما أكدت توصيات المؤتمر على أهمية توثيق الصلات والتعاون بين المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية والهيئات الرسميــة والشعبيــة في العالم الإسلامي في كافة المجالات إفادة واستفادة، مع بذل الجهود الدولية الفاعلة لتحقيق كرامة الإنسان وحفظ حقوقه، وإقامة العدل الناجز، وتحقيق التعايش الآمن بين المجتمعات البشرية. ودعت التوصيات إلى إنشاء منتدى للتواصل الحضاري الإسلامي الأمريكي لتعزيز التواصل الفكري والثقافي والعلمي بين الشعوب الإسلامية والشعب الأمريكي، وتعميق الروابط الحضارية بين الجانبين، إلى جانب وضع خطة استراتيجية شاملة ومتكاملة للتنسيق بين المنظمات والمراكز والجامعات والمؤسسات الإعلامية لمواجهة الفكر المتطرف وحماية المجتمعات من آثاره ونتائجه وارتداداته على الطرف الآخر.
ويستفاد من اهتمام رابطة العالم الإسلامي بأوضاع الجاليات المسلمة خارج العالم الإسلامي أنها تولي عناية فائقة للدفاع عن الحقوق الثقافية والدينية والمدنية للمواطنين من أصول مسلمة في المجتمعات غير الإسلامية وبحث السبل الناجعة للحد من انتهاك حقوقهم.كما تعمل على تأصيل التعددية الثقافية والتنوع الثقافي والمذهبي وتعزيز برامج التبادل الثقافي بين الأقليات المسلمة في العالم ، وتعزيز قيم الاعتدال والحوار والتسامح والتآخي، ونبذ التعصب والكراهية المذهبية، وإبراز الخصوصيات الثقافية والفكرية للأقليات المسلمة في العالم. وتحرص الرابطة كذلك على تفعيل الآليات الأكاديمية والمهنية و القانونية والحقوقية للحد من الصور النمطية عن الأقليات المسلمة في الإعلام الدولي ، وتأهيل الأسر والنساء والشباب والأطفال من الأقليات المسلمة في مجال التربية على المواطنة والاعتزاز بهويتهم الثقافية والدينية والمساهمة في تنمية المجتمعات المحلية التي يعيشون فيها.
وتأسيسا على ذلك ، فإن الجهود التي تقوم بها رابطة العالم الإسلامي في الدفاع عن الحقوق الثقافية والدينية والمدنية للأقليات والجاليات المسلمة في أمريكا الشمالية والجنوبية وغيرها من بلدان العالم تجعلها اليوم من أكثر المنظمات مصداقية وقدرة على توعية الأقليات المسلمة في العالم على التشبت بهويتها الثقافية والدينية ، وحثها على الالتزام باحترام القوانين المنصوص عليها في دساتير الدول التي تعيشها فيها هذه الأقليات،إما كمهاجرين شرعيين أو مواطنين كاملي المواطنة. وبهذه المبادرات الحضارية تساهم رابطة العالم الإسلامي في التصدي للمنظمات والجمعيات التي ، لأجل تحقيق أغراض سياسية ، تتاجر بقضايا الأقليات والجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
باحث في علوم الاتصال والحوار الحضاري
تعليقات ( 0 )