إعلان “وفاة” المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.. هل هي صفقة “انتخابية” بين باريس والجزائر؟

 
 
 على نحو مفاجئ، أعلن جيرالد دارمانان وزير الداخلية الفرنسي، باعتباره “مكلفا بالديانات”، في 12 ديسمبر المنصرم عن قرار “وفاة” المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يمثل واجهة رسمية لـ “الإسلام الفرنسي”. لقد كان من الممكن فهم هذا القرار المثير للغط كبير لا ينتهي، على أنه شأن فرنسي داخلي بحت في سياق النقاش الفرنسي الذي لا ينتهي، حول “عدم تقيّد” مسلمي فرنسا (أفرادا ومؤسسات) بقواعد الجمهورية وقوانينها العلمانية.. لولا أنه أتى في سياق محاولات محمومة من الرئاسة الجزائرية، لاستغلال ظروف الانتخابات الرئاسية الصعبة التي ستشهدها فرنسا بعد أربعة شهور، لفرض “الإسلام القنصلي” الجزائري على عموم مسلمي فرنسا.. ولولا أن قرار وزير الداخلية الفرنسية أتى في سياق حرب مفتوحة ومسمومة، على من يسميهم إعلام فرنسا ومخابراتها “عملاء المغرب” المندسين في مؤسسات “الإسلام الفرنسي”.       
فما هي مبررات وأهداف قرار الوزير دارمانان؟ وكيف ولماذا تستهدف الحكومة الفرنسية رموز ومؤسسات الإسلام المغربي في فرنسا؟ ولماذا يصب ماء قرار دارمانان هذا في طاحونة “الإسلام القنصلي” الجزائري؟ ولماذا تبدو الرئاسة الجزائرية مصممة على استغلال “ثقلها” البشري وسط الكتلة الناخبة الفرنسية، لفرض “نموذجها” على عموم مسلمي فرنسا؟       
 
عند تأسيسه في 2003، تشكل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي أعلن وزير الداخلية الفرنسي عن “وفاته” قبل أسبوعين، من تسعة اتحادات جمعيات إسلامية تعترف بها السلطات الفرنسية. لكن هذه الاتحادات تخضع بحكم الواقع لنفوذ ثلاث دول إسلامية، هي المغرب وتركيا والجزائر. ولذلك فعلى الرغم من أن فرنسا حاولت دائما توظيف المجلس بما يخدم ضبطها الروحي بخلفية أمنية أساسا لمسلميها، تحت مسمى “إسلام فرنسا” أو “الإسلام الفرنسي”، إلا أن المجلس ظل على الدوام ومنذ تأسيسه، حقلا للتوترات والصراع بين مكوناته. وهو حقل تتداخل فيه ديبلوماسية البلدان الثلاثة، خصوصا الجزائر بوزارة أوقافها وخارجيتها ومخابراتها الخارجية، بحيث جعلت منه قضية دولة.
وهو ما أطلق عليه الفرنسيون مصطلح “الإسلام القنصلي”، للدلالة على تدخلات الخارجية الجزائرية في شأنهم الديني الداخلي. بيد أن ما يدعو إلى الاستغراب في هذا الباب، أن الدولة العميقة الفرنسية ظلت تستهدف المغرب لوحده بحملات إعلامية ممنهجة. آخرها اتهام أحد المساعدين المقربين لرئيس المجلس المغربي الأصل محمد الموساوي، بكونه عنصر مخابرات مغربي نجح في “التأثير” عليه!
 
“عميل” مخابرات مغربي غامض
لقد سبق لوزير الداخلية المكلف بالعبادات جيرالد دارمانان، أن كشف بأنه مكلف من الرئيس ماكرون، بالعمل على وضع حد لما يعرف باسم “الإسلام القنصلي”، الذي يروج له أئمة جزائريون متعاقدون. فالمعروف أن هؤلاء الأئمة هم موظفون تابعون لوزارة الأوقاف الجزائرية، وهو ما يتنافى مع القانون الفرنسي الذي يمنع على جهات خارجية بتمويل المؤسسات الدينية فوق ترتبها. وهؤلاء الأئمة الذين جرى نعتهم مرارا بأنهم “جاهلون” بالواقع الاجتماعي والسياسي الفرنسي، يروجون لتعاليم دينية تتنافى مع قوانين الجمهورية الفرنسية العلمانية. ورغم ذلك، فقد اختار دارمانان عميد مسجد باريس شمس الدين حفيظ مستشارا مقربا منه أمام اندهاش الجميع، رغم أن شرعيته لعمادة المسجد الذي يعد رمزا لـ “الإسلام الفرنسي” مطعون فيها.
وفي الفاتح من ديسمبر الماضي، نشرت المجلة الأسبوعية الفرنسية “لوبوان”، “تحقيقا” غريبا تتهم فيه المخابرات المغربية الخارجية (لادجيد) بمحاولة “التأثير” في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. ووجه الغرابة في الموضوع، أن المجلة تتحدث عن مواطن مغربي (العميل المفترض) بصيغة لا تحترم عقول قرائها. فتضفي عليه مسحة أسطورية، بادعاء أن اسمه (محمد ب) وأنه دعل فرنسا في ظروف غامضة، بحيث لم تعثر له المخابرات الفرنسية ‒منذ أن شرعت في البحث عنه‒ على أدنى صورة أو معلومة تمكن من تحديد هويته بدقة (كذا).
وتضيف “لوبوان” بأن ما يُؤاخَذ على هذا الشخص الغامض هو تجنيده لعناصر من شرطة الحدود الفرنسية، وتقربه من رئيس المجلس إياه محمد الموساوي، للتأثير في عملية تنظيم أئمة فرنسا بما يخدم مصالح المغرب. ونسبت للموساوي إقراره لها بكونه تم إيواؤه مجانا من قبل السفارة المغربية في باريس، مقابل الإدارة التطوعية للأئمة الفرنسيين والمغاربة التابعين للمجلس، و”تدبير المساعدات المغربية للمساجد الفرنسية”. كما تنقل عن الموساوي إقراره بأنه تعرف على (محمد ب.)، فقط باعتباره مسؤولا في وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية.
كيف يستقيم هذا المنطق الغربي في ذهن عقل؟ الرجل اشتغل إلى جانب رئيس مجلس الديانة الإسلامية الفرنسي، وتدخل وحاول التأثير في عملية تنظيم الأئمة وتدبير المساعدات المالية المغربية، وحصل من شرطة الحدود الفرنسية على وثائق حساسة، الخ. ورغم كل ذلك لا تملك له الأجهزة الفرنسية أدنى صورة، بل ولا تعرف حتى اسمه بالضبط؟؟
 
الرئاسة الجزائرية على الخط
لنترك “تحقيق” المجلة الفرنسية جانبا، ولنتابع تسلسل الأحداث لأنه مهم من أجل فهم ما يجري.
في 9 ديسمبر، وبشكل متزامن مع زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، إلى الجزائر من أجل “إحياء العلاقة” الفرنسية-الجزائرية المتوترة منذ أشهر، أعلنت الرئاسة الجزائرية بأن الرئيس تبون قد استقبل في 9 ديسمبر، عميد مسجد باريس الدكتور شمس الدين حفيظ. وكشف بيان صدر عن الرئاسة بأن الرئيس أعطاه توجيهات (تعليمات)…
بعد الرئيس، اجتمع وزير الشؤون الدينية والأوقاف يوسف بلمهيدي عميد مسجد باريس يوم 13 ديسمبر. وهذه المرة كان حاضرا الخليفة العام للطريقة التجانية الشيخ علي بلعرابي، وهما معا جزائريان طبعا. وفي ختام هذا اللقاء، بدا حفيظ وبلعرابي مبتهجين بالتكريم الرسمي الذي حظيا به من الرئاسة والحكومة والإعلام، وأعربا في تصريحات لوسائل الإعلام الجزائرية بحضور وزير الشؤون الدينية والأوقاف يوسف بلمهديدي، عن فخرهما بـ “نقل الإسلام الجزائري إلى فرنسا”.
يومان بعد ذلك، يعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أثناء مشاركته في برنامج تلفزيوني وبشكل مفاجئ، عن “وفاة” المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. هذه المؤسسة الرسمية التي تعتبر المحاور الرئيس للسلطات العمومية حول شؤون الدين الإسلامي في فرنسا. مستبعدا بذلك “الإسلام الفرنسي” المتصالح مع الطابع العلماني للدولة، ومتحالفا بشكل غير معلن مع “الإسلام القنصلي” الجزائري، الذي يفترض أنه كان يحاربه.
وقدم الوزير دارمانان لتسويغ قراره الذي يُعتبر شططا بكل بساطة في السلطة، مبررات غير مقنعة. متناسيا حقيقة إحصائية لا يمكن له إنكارها، وتتمثل في أن غالبية الأئمة المنتدبين الحاليين بفرنسا أتوا من الجزائر، وهم موظفون في الدولة الجزائرية.
وكما سبق أن حدث من تجاهل آراء ممثلي مسلمي فرنسا، خلال فرض “ميثاق الأئمة” عليهم قبل شهور، قرر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان “موت” المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، محددا متم يناير المقبل، موعدا لتنظيم “منتدى للإسلام في فرنسا” قصد إحداث هيئة تمثيلية جديدة.
 
هل هي صفقة انتخابية؟
كيف يمكن أن نقرأ مجمل هذه التطورات التي استجدت في حقل “الإسلام الفرنسي”، خلال الأسبوعين الأولين فقط من الشهر الجاري؟ وما هي علاقتها الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري بعد أربعة شهور؟ باختصار شديد، نحن نعلم أن الرئيس الحالي ماكرون الذي ينوي الترشح لولاية رئاسية أخرى، يواجه مناخا سياسيا داخليا مشحونا يتميز بصعود قوي لمرشحَيْ اليمين المتطرف: الصحفي اليهودي الجزائري الأصل، وزعيمة أقصى اليمين الشهيرة مارين لوبين.
في مواجهة هذين المرشحين القويين، تبدو حظوظ ماكرون، الذي يقول إن حزبه (إلى الأمام) ليس لا يمينيا ولا يساريا، متواضعة للغاية. خصوصا وأن وزن فرنسا الدولي ضعف كثيرا في عهده، وتحول تدخل باريس العسكري في مالي “ضد الإرهابيين الإسلاميين” نكسة كبرى. ومن خلال قراءة ما وراء لغة الخشب، في تصريحات المسؤولين الجزائريين والفرنسيين، يمكن لنا أن نستشف رائحة صفقة انتخابية محتملة. فقد دعا عميد مسجد باريس الدكتور شمس الدين حفيظ، الجالية الجزائرية بفرنسا إلى “لعب دورها في الانتخابات الرئاسيات الفرنسية المقررة في أبريل المقبل”. وأضاف في تصريحات لوسائل إعلام جزائرية بأن المرشحين للانتخابات الفرنسية “يلعبون دائما على ورقة الجزائر لاستمالة أصوات الناخبين لصالحهم”. وكشف عميد مسجد باريس بأن “الرئيس تبون يولي اهتماما كبيرا للجالية الوطنية في الخارج، خصوصا في ظل وجود 400 مسجد جزائري في فرنسا، وحوالي 120 إمام جزائري منتدب هناك، حيث تنتدب الجزائر الأئمة في فرنسا منذ العام 1981″، كما قال عميد مسجد العاصمة الفرنسية.
وهذا الكلام يُحسَب في الواقع تدخلا في الشأن الانتخابي الفرنسي، خصوصا وأن حفيظ الذي كان يتحدث كجزائري من الجزائر يحمل الجنسية الفرنسية. بل أكثر من ذلك، تعلم فرنسا الرسمية جيدا بأن عميد مسجد باريس هذا، يعاني من مشكل الطعن في شرعيته على رأس المسجد الذي يرمز لـ “الإسلام الفرنسي” منذ قرن، من طرف المعارضين له الذين يتهمون سلفه دليل أبوبكر (جزائري هو الآخر)، بأنه هو من فرضه على رأس المسجد ليكون خليفة له ليبقى هو (دليل بوبكر) يدير المسجد من خلف الستار. ومع كل ذلك وغيره من الحيثيات الأخرى، لم تُقم السلطات الفرنسية ولم تُقعدها ولم تتدخل، تفاديا لإغضاب الجزائر أكثر.
ويحمل كل هذا على الاعتقاد في أن زيارة عميد مسجد باريس إلى الجزائر، أتت بضوء أخضر من باريس (وربما بتكليف منها)، محملا بطلب فرنسي لتوجيه الجالية الجزائرية للتصويت على ماكرون، من أجل المساعدة على لتفويت الفرصة على اليمين المتطرف، الذي لا يكن الود للجالية الجزائرية (ولا لباقي الجاليات الإسلامية).
 
الإسلام الفرنسي.. حقائق وأرقام
يُعتبر الإسلام ثلني ديانة في فرنسا بعد المسيحية (المذهب الكاثوليكي). وتحتضن فرنسا أكبر عدد من المسلمين في أوروبا، حيث يفيد التقديرات (القانون الفرنسي علماني يمنع إحصاء السكان على أساس ديانتهم) بأن عددهم يبلغ حوالي 5 ملايين نسمة، من أصل 67 مليون نسمة هو تعداد سكان فرنسا. وبحسب دراسات فرنسية، فإن 80% من مسلمي فرنسا مغاربيون، حيث يشكل الجزائريون أكبر جالية بينهم، بأكثر من نصفهم وبواقع 2,6 مليون نسمة. يليهم المغاربة بحوالي 1 مليون نسمة، ثم التونسيون، والأتراك، والمتحدرون من إفريقيا جنوب الصحراء.
وبسبب الماضي الاستعماري وماضي الحروب الصليبية، وأيضا بسبب الطبيعة العلمانية والعنصرية للمجتمع والدولة، يجد المسلمون صعوبات في الاندماج كـ “مواطنين فرنسيين”. ولذلك، فرغم حصولهم على الجنسية الفرنسية، إلا أن أغلبهم يفضلون الانعزال وسط مجتمعات مغلقة communautés، تتشكل غالبا على أساس الانتماء العرقي أو الانتماء لنفس بلد الجذور. بالمقابل، ينظر الفرنسيون بريبة شديدة وقلق من “مسلميهم”، فيربطونهم غالبا بالتنظيمات الجهادية المتطرفة، بحيث يسهل الخلط الديماغوجي. وهكذا يمثل الإسلام والمسلمون موضوع دراسات وقراءات سياسية واجتماعية. كما يمثلون أيضا رهانا انتخابيا يخضع للمزايدات الحزبية والتحليلات، على نحو ما هو حاصل حاليا في أفق الرئاسيات الفرنسية القرب.
يوجد في فرنسا اليوم، 2500 مسجد ودار عبادة إسلامية، بحسب تقديرات المسجد الأعظم بباريس. بينما كان عددها أقل من 100 في العام 1970. وبحسب نتائج دراسة دولية، سيشكل المسلمون 12,7 % من الشعب الفرنسي بحلول العام 2050، في حال توقفت هجرتهم. أو 18% في حال تواصلت هجرة المسلمين من الخارج إلى فرنسا. بينما تفيد إحصائيات أخرى بأن خُمُس (20 %) المواليد الجدد بفرنسا حاليا، يحملون في فرنسا أسماء عربية-إسلامية. وهو ما يعني بجلاء بأن المسلمين يسجلون نسب خصوبة عالية بين الفرنسيين. والحال أن نسبتهم لم تكن تزيد عن 1% في العام 1960.
وطبعا لا يتوقف وهذا النوع من الخلاصات عن إثارة سجال سياسي لا ينتهي، خصوصا في زمن الانتخابات.
 
 
 

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي