بداية يجب التنبيه إلى أن قرار العودة إلى حمل السلاح ليس بيد الجبهة الانفصالية، بل هو قرار بيد أسيادها جنرالات النفط والغاز الجزائريين، فهم من يتحكم في ميلشيات “البوليساريو”، وهم من يحرك “عَرائِس” الجبهة الانفصالية لتنفيذ اجندتهم العدوانية ضد المملكة، ومن أجل إسكات المعارضة الداخلية وإلهاء الشعب الجزائري عن مطالبه الاجتماعية والسياسية، والهروب من مواجهة إفلاس الدولة الجزائرية وانهيارها الوشيك، كما يشهد بذلك كل المراقبين الموضوعين وآخرهم السفير الفرنسي لدى الجزائر في المقال الذي نشرته “لوفيغارو” منذ بضعة أيام.
من هذه الزاوية، نعم الجبهة دخلت منذ مدة في شن أعمال عدائية ضد المغرب، وقد أدى العمى الاستراتيجي لدى جنرالات الجزائر إلى ارتكاب اخطاء سمحت للمملكة أن تقلب السحر على الساحر وتحول مفرقعات الجزائر والانفصاليين إلى انتصارات ساحقة، وهو ما حدث بمعبر الكركرات في ذلك اليوم المشهود 13 نونبر 2020، حين تحول قطع الطريق بين المغرب وموريتانيا إلى فرصة لتطهير الحدود المغربية الموريتانية بشكل نهائي، وهو ما قضى بغير رجعة على التكتيكات البليدة للقيادة الجزائرية التي كانت تهدف إلى محاصرة المغرب من الجنوب وعرقلة علاقاته الاستراتيجية مع إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال قطع الطريق امام قوافل التجارة المغربية نحو موريتانيا وأفريقيا الغربية.
وبنفس الغباء تحاول اليوم الجزائر، بواسطة اداتها جبهة الانفصال، استفزاز المغرب عبر أعمال عدائية شرق الجدار الامني ولكنها تبقى مجرد زوبعة في فنجان بسبب وجود الجدار الامني ومنظومته الدفاعية الالكترونية، وبسبب التفوق الفضائي والجوي عبر الأقمار الاصطناعية والدرونات من الجيل الجديد بالإضافة إلى التفوق الاستخباراتي الذي اصبح واضحا للعيان، وقد اكدته موقعة الكركرات ثم الاقالات المتتالية للجنرالات الذين تناوبوا على الاستخبارات الخارجية الجزائرية في ظرف لا يتجاوز بضعة شهور .
ولكن تلك الاستفزازات شرق الجدار ستمنح المغرب كما وقع في حادثة الكركرات فرصة لبسط نفوذه على كل الشريط العازل الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من التراب الوطني المغربي. وقد سبق للمغرب أن نبه الأمم المتحدة إلى أنه أمام عجز بعثة المنورسو عن تسيير دوريات مراقبة وقف إطلاق النار ووضع حد للأعمال العدائية، بل وعجزها حتى عن تامين وصول الماء والوقود إلى اطقم الأمم المتحدة شرق الجدار، فإن المغرب لن يقف مكتوف الأيدي وسينشر قواته المسلحة الملكية على الحدود الرسمية مع الجزائر، مما سيحول دون وصول عصابات “البوليساريو” بشكل نهائي إلى هذه المنطقة.
وللتذكير فإن المنطقة العازلة تم إحداثها بقرار مغربي أحادي وسيادي خالص بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وذلك بغرض ملاحقة فلول الانفصاليين بعد تنفيذ هجماتهم الجبانة آنذاك، وحتى تتمكن القوات المسلحة الملكية من ضربهم فوق التراب المغربي قبل دخولهم إلى التراب الجزائري، لان المغرب كان يتفادى بكل الطرق الدخول في حرب شاملة ومباشرة مع جارة السوء الشر-قية، لان الملكيات تنظر بمنظار القرون وليس السنوات للعلاقات مع الجيران، والحكمة تقتضي أن نزن العواقب بميزان الذهب قبل الاقدام على قرار الحرب، فهي إن اندلعت فستخلف وراءها خرابا ودمارا. لذلك بالنسبة للمغرب، فإن الحرب هي كما يقول المثل الشعبي “آخر الدواء الكي”.
ثانيا، اذا كان ولابد من هذا الخيار الصعب فيجب أن نستعد له من خلال تحديث قواتنا المسلحة الملكية وبناء تحالفات دولية قوية وضمان عدة شروط داخلية وخارجية، وهو ما قام به المغرب في العشرية الاخيرة، من خلال بناء قاعدة صناعية عسكرية وإحداث منطقة عسكرية على الحدود الشرقية، والعودة إلى التجنيد الإجباري، والرفع من جاهزية القوات المسلحة الملكية برا وبحرا وجوا عبر المناورات مع أقوى الجيوش العالمية، وابرام تحالفات عسكرية مع أقطاب مشهود لها بالتفوق العسكري والاستخباراتي، وغير ذلك من الإجراءات.
ثالثا، الحرب إذا اضطر إليها المغرب اضطرارا فيجب أن يختار هو متى واين وكيف يخوضها، ولا يجب ان يجرنا العدو إلى مكان وتوقيت خوضها، وقد حاولت الجزائر مرارا جرنا اليها في السنوات الأخيرة من خلال تناسل حوادث الاعتداء في الصحراء كحادثة الشاحنتين الجزائريتين اللتين اخترقتا الحدود في المنطقة العازلة، او اعتداءات أخرى على طول الحدود خارج منطقة الصحراء، ومنها اقتحام واحة العرجا شمال مدينة فكيك سنة 2021 وطرد المزارعين المغاربة منها، وغيرها من العمليات الاستفزازية كان آخرها مقتل بعض الرعاة باقليم فكيك برصاص جزائري غادر، بالإضافة إلى اتهامات سوريالية بإشعال النيران في الغابات الجزائرية وفي بلاد القبائل صيف 2021، بالإضافة ايضا الى الحشود على الحدود والمناورات العسكرية المتكررة بالذخيرة الحية على التماس مباشرة مع المغرب، دون أن ننسى التصريحات الخطيرة للرئيس الجزائري المعين، أدلى بها لمجلة فرنسية منذ أسابيع قليلة، اكد فيها أن الجزائر كانت في غشت 2021 أمام خيارين: الحرب مع المغرب او قطع العلاقات! وهذا اعتراف صريح وخطير يبين الهدف من الحشود العسكرية الجزائرية على الحدود مع المغرب ويؤكد ما اوردته مراكز دراسات ومراصد امريكية واوربية عن نية الجزائر شن عدوان عسكري على المملكة. وهذا ايضا ما يفسر إلى حد بعيد بعض القرارات الصعبة في الاتفاقيات والتحالفات الدولية المبرمة من طرف المغرب والتي لم تستسغها فئة عريضة من المواطنين، ولكنها قرارات املتها بوصلة الحفاظ على سلامة ووحدة الوطن، وعقل الدولة وصانع قرارها قد يضحي احيانا بشعبيته وقد يضحي برضا الجماهير التي قد تخفى عليها بعض او جل الحيثيات والملابسات والمعطيات، ولكن الزمن كفيل بكشفها، ويبقى التاريخ وحده قادرا على إنصاف القيادة والحكم على قراراتها، وهاهي تصريحات الرئيس المعين تبون، تسلط الضوء على بعض الزوايا المعتمة، وما خفي أعظم.
هذه هي الزاوية الموسعة التي نقرأ من خلالها تصريحات “كراكيز” قيادة الجبهة الانفصالية حول العودة إلى حمل السلاح، اما ميدانيا في الصحراء فقد حسم المغرب الحلّ العسكري لصالحه منذ 1987 تاريخ الانتهاء من بناء الجدار الأمني السادس، وهذا ما دفع الجزائر صاغرة إلى قبول مسلسل التسوية الاممي، وهذا ما سرّع من تآكل الجبهة الانفصالية من الداخل من خلال انتفاضة 1988، والتي ستكون سبباً في عودة حوالي ثلث ساكنة مخيمات تندوف إلى وطنهم المغرب فارين من جحيم تندوف وإذلال العسكر الجزائري لهم، ومنهم أعضاء مؤسسون للجبهة مثل عمر الحضرمي وإبراهيم حكيم، وقيادات عسكرية مثل الحبيب أيوب رحمه الله الذي غادرنا العام الماضي إلى دار البقاء، وعشرات من القياديين من مختلف هياكل الجبهة.
وقد تسارع مسلسل الانهيار الداخلي للجبهة الانفصالية من خلال ظهور تيارات جديدة مثل “تيار صحراويون من أجل السلام” و”تيار خط الشهيد” و”تيار 5مارس” والعديد من المجموعات المنشقة او تلك التي أعلنت اعتزالها للجبهة في المخيمات والشتات.
ويمكننا القول أنه أمام صمود الشعب المغربي طيلة نصف قرن، وامام الدعم العربي والافريقي والدولي المتزايد للموقف المغربي وللشرعية التاريخية، وبعد الاعتراف الامريكي والمراجعة التاريخية للموقف الإسباني والتغيرات الجيوسياسية الجارية في العالم العربي والساحل والصحراء وأوكرانيا وبحر الصين وعبر العالم، وأمام الانهيار الداخلي للمشروع الانفصالي، لم يبق أمام زعيم الانفصاليين، الذي فقد حتى هويته وانتحل اسم ابن بطوش الجزائري، إلا التلويح بالعودة إلى السلاح، وهو يعلم يقينا أن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء فقد “فاته الغرس في مارس” كما يقول المثل الشعبي، وهو يعلم أن النظام العسكري الجزائري على شفا حفرة من النار، كما اكدته التقارير الدولية المحايدة وكما اكدته سنتان ونصف من الحراك الشعبي الجزائري المطالب بإسقاط نظام عصابات الجنرالات.
لذلك يبقى التلويح بحمل السلاح خيار اليائس الذي فضل الانتحار والتضحية بساكنة المخيمات إرضاء لسادته الماسكين بخيوط الجبهة في الجزائر، وكأني بولي أمره الجنرال شنقريحة يقول لابن بطوشة “كما عشنا سويا يجب ان نموت سويا”، وهذه نهاية كل الدكتاتوريات ونهاية كل من خان وطنه وباع نفسه للشيطان.
تعليقات ( 0 )