توطئة لابد منها..
لعل أهم سبب من أسباب كتابة هذا المكتوب الطويل، هو ما لاحظه الجميع من استدعاء دال وهادف للتاريخ في الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا. استدعاء لافت ومثير ظهر جليا في التصريحات والتصريحات المضادة من قبل قياديي المعسكرين. لافروف وزير خارجية روسيا استعان بشكل ملحوظ بعدد من القراءات للتاريخ الحديث، عندما تناول مسألة الصراع في أوروبا متحدثا عن فترة نابوليون ثم هتلر.
وهناك كتاب شهير للمؤرخ للبريطاني الان جون تايلر، عنوانه “الصراع من أجل السيادة على أوروبا” كترجمة لكتابه بالإنجليزية ” the struggle for the mastery in Europe “، صدر سنة 1954، والذي يتحدث فيه عن الصراعات خلال القرن 19 إلى انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918، بين الامبراطوريات الأوربية، الروسية، الفرنسية، البريطانية، العثمانية، وباقي الدول العظمى حينها في أوروبا التي كانت تحكمها عائلات ملكية كبرى، من أجل فرض السيطرة على أوروبا باعتبارها مركز العالم.
تايلور المؤرخ المثير للجدل، الذي يتميز بتحقيقات وقراءات تاريخية نوعية ومختلفة عن السائد في الغرب، خصوصا في كتابه عن أسباب الحرب العالمية الثانية، التي يعتبرها ناتجة عن مؤامرة اجرامية بريطانية بولونية، لإيقاف جنوح هتلر نحو السيطرة على أوروبا اقتصاديا وسياسيا، ومن تم السيطرة على جزء من العالم، والذي حسب تايلر يعتبر قائدا عاديا لم يكن ينوي الدخول في الحرب حينها إلا أنها فرضت عليها لإيقاف زحفه. ويراه تايلر أنه ليس إلا تعبير عن فكر جرماني كان سائدا في الفكر الشعبي وفي أفكار المثقفين الألمان.
وهي كلها صراعات تكون قد غيرت وجه اوروبا، بسقوط عائلات حاكمة وامبراطوريات وقياصرة، وخلفت موازين قوى جديدة، وقسمت بعض دول أوروبا، وظهرت منظومات وأنظمة حكم وطنية جديدة. ومن خلال كتاب تايلر يبدو أن ميزان القوى في أوروبا، خصوصا مع ظهور فاعلين دوليين جدد، كالولايات المتحدة الأمريكية، ظل موضوع متغيرات تحكمت في مسار تاريخ أوروبا كلها، بتأثيراتها على المحيط الدولي بأكمله.
عند قراءة كتاب تايلر عن الصراع من أجل الهيمنة على أوروبا، خلال تلك الفترة، قد يبدو أن ما يحدث اليوم في أوروبا من حروب وصراعات، هي نفسها التي سادت خلال تلك الحقبة، من نفس الأطراف ولنفس الأهداف والمصالح، مما يجعل التاريخ حيا لم يمت وإنما يعيد إنتاج نفسه، ربما لأن القادة والحكام في الغرب يتوارثون خلاصات التاريخ كعقائد محركة للسلوك الخارجي للدول.
مدرسة تايلر في فهم مسار التاريخ والفاعلين فيه، من منظور فهم تدبير القوة للسيطرة، لها تلاميذ كثر في الغرب. ومن أهمهم نجد جوزيف ناي صاحب نظرية القوة الناعمة، كجزء من مفهومه القوة الذكية smart power، الذي توفق بذكاء بين استعمال قوة ناعمة وأخرى صلبة لنفس الهدف، وهو تحقيق السيطرة والهيمنة والتسيد على باقي دول العالم وباقي الشعوب.
أيضا هذا الاستدعاء الغائي للتاريخ أعاد إلى الواجهة مسألة الاختلاف الديني التاريخي بين الكنسية الشرقية الأرثوذكسية، والكنيسة الغربية الكاثوليكية، وتموقع تركيا في هذه المواجهة باعتبارها أحد أهم المعاقل التاريخية للكنيسة الأرثوذكسية، ولعل هذا أحد أسباب قبولها في الحوار بين طرفي النزاع الأرثوذكسيين. وربما اليونان هي الدولة الغربية الوحيدة المنتمية للاتحاد الاوروبي التي لم تعبر أن مساندة كبيرة للغرب ضد روسيا، وهي الدولة الغربية الوحيدة في هذا الفضاء الاوروبي التي لم تتخل عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، مما قد يعتقد أنه يفسر بعض المصاعب الاقتصادية وحتى السياسية مع الدول الغربية الكاثوليكية.
ومن بين أهم ما يميز الكنيسة الارثوذكسية عن الكاثوليكية هو عدم تبرئتها لليهود من دم المسيح حسب معتقداتهم. هذا الموضوع الحساس بالنسبة لليهود، شكل أحد ملفات الضغط اليهودي الإسرائيلي على الغرب والشرق من أجل استصدار براءة تاريخية.
ولعل الضغط الذي مارسه اليهود واسرائيل تحديدا على الكنيسة الكاثوليكية بعد الحرب العالمية الثانية، بتحميلها المسؤولية الأخلاقية المباشرة عن الهولوكوست في ألمانيا وعن تطرف اليمين تجاه اليهود، أدى في نهاية المطاف إلى تبرئتهم من دم المسيح في ستينيات القرن الماضي، ثم اعتراف بإسرائيل أواخر الثمانينات ثم فتح سفارة أو تمثيلية للفاتيكان في التسعينيات.
هذه المقدمة الطويلة نسبيا لمقال رأي صحفي، تسند فكرة ضرورة إعادة خلاصات مراحل حقب التاريخ المغربي العالمي إلى الواجهة. كثيرا ما يعتبر الناطقون السياسيون أو الاعلاميون أن الاحتجاج أو الترافع بالتاريخ، مجرد قصص تاريخية مرددين الجملة الشهيرة التحقيرية نهر جارف من الأحداث التي تشكل الذهنية والذاكرة المحركة للسلوك: c’ est de l’histoire. جملة تلخص نظرا تبسيطيا سطحيا لأحداث التاريخ.
لست مؤرخا أو مختصا في التاريخ، ولا أدعي تملك معرفة الخبراء والباحثين الدقيقة في قراءة وتفسير التاريخ، أو في تدقيق ومراجعة معطياته، ولا أزعم أنني ملم بكل مفاصل الحقب التاريخية، وإنما من باب الاهتمام المرتبط بواجب الانتماء ومن باب ضرورات الهوية، التي تجعل من قراءة تاريخ بلدنا فرض عين في ايصال ما توفر كل من جهته إلى أبناء الأجيال الجديدة بالخصوص، التي من واجبنا وواجبها فهم تاريخ الأمة المغربية، والتعرف على عظمتها في صناعة مسارات تاريخية بالغة الأهمية لفهم حاضر القوة الذي نعيشه.
تاريخ الأمم والدول والشعوب هو بمثابة ذاكرة الفرد العادي، مهما كبر في السن إلا أنه يتذكر احداثا وقعت معه في شبابه أو في طفولته غبرت مساره أو أفكاره وشكلت لديه ثقافة وعقيدة ثابتة.
وحتى بيولوجيا الجسد البشري تحمل تاريخا وذاكرة، من خلال جينات وراثية قد تعود لعشرات السنوات أو أكثر، تتمظهر في الشبه البيولوجي “التاريخي”، بين الحفيد والأصول العليا.
ماذا عن الدولة العلوية، في تاريخ صناعة القوة وتدبير التناقضات الدولية المحيطة بالمغرب؟
تاريخ المغرب الوسيط حسب تحقيب المؤرخين، يمنح القارئ والمهتم نظرا غزيرا وفيرا من حيث حجم التواجد المغربي في قلب السياسات الداخلية والخارجية، لعدد من القوى العظمى التي تصارعت من أجل التسيد على العالم.
يقول المؤرخون أنه مع المرابطين والموحدين تشكل الزمن الامبراطوري للدولة المغربية، في الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادية.
تفاعل المرابطون مع قضايا الدين والمتدين، واندفعوا لنصرتها، لاسيما في شبه الجزيرة الإيبيرية، وحققوا توازنا دوليا جديدا في المنطقة. لقد شهدت هذه الفترة، نهضة إسلامية حقيقية لشعب أمازيغي قوي محب للحياة وللجمال وللعمل، مما ساهم في تلاقح ثقافي وعمراني فريد بين الخيال والإبداع والسواعد الأمازيغية وبين الثقافة الغربية في التنظيم والعمران. ما قام به الفارس الأمازيغي المرابطي المغربي في الانتصار للحق والتدين المالكي المعتدل، نموذج ترسخ فيما بعد في قيم تدبير الدولة المغربية.
لم يتخلف الموحدون بعد المرابطين، عن السير على نفس النهج فيما يتعلق بنصرة قضايا مفهوم الأمة الإسلامية، غير أن ما يميز فترتي حكم هاتين الامبراطوريتين الناشئتين هو غياب فكر يؤسس لقواعد ديبلوماسية دولية حقيقية. كانت السمة الأساسية هي المواجهة المباشرة الميدانية نظرا لحجم الثقة في النفس وفي القوة العسكرية حينها.
وقد تكون أهم خلاصات ومميزات زمني الحكم المرابطي والموحدي، رغم وجود توتر وربما صراع داخلي يتعلق بقراءة الدين، في فترة الموحدين تجاه المالكية، هو أن المغرب أصبح قلب الغرب الإسلامي، في مقابل الشرق الإسلامي. لقد خلفت هاتين الفترتين من حكم المغرب إرثا فنيا عمرانيا عظيما، إرثا وفق بشكل دقيق وباهر، ما بين الرسالة الحضارية الإسلامية في البناء والعمران وما بين الإبداع الفني والجمالي الأمازيغي والاندلسي. تجلى ذلك بشكل ملموس ما نمر أمامه يوميا في الأسوار والبوابات والمساجد والصوامع، في مختلف المدن الإمبراطورية المغربية.
لقد ساهم هذا الزمن، حسب المؤرخين، في إعادة تنظيم الفكر الاندلسي، وفي نشأة فكر عربي مغربي مستقل عن المشرق. فكر آثاره النظرية مستمرة إلى الزمن الحالي، فكر أخصب نظرية الحكم والدولة في المغرب، وجعل لها قوة ورؤية عظيمة في البناء والتدبير والتجاوب مع المجتمع ومع الأجنبي.
بعد المرابطين ثم الموحدين، ربما لم يكن المرينيون يملكون نفس الشرعية أو الأطروحة والمشروع الديني لمن قبلهم لا حتى لمن بعدهم، وربما لهذا السبب حاولوا خلق نسق عقدي جديد، يلتمس الشرعية من الأولياء والصالحين، إضافة إلى أنهم لم يكونوا يتوفرون على نفس القدرات والقوة لمن سبقهم، لمواجهة صعود وظهور جبهات مناوئة لهم في الخارج، سواء في إفريقيا أو في مالي أو الأندلس..
وقد تميزت فترة حكم المرينيين بتجدد ظهور أفكار وممارسات التقسيم والتجزيء الترابي القبائلي، والطرقي الصوفي للمغرب. تقاتل معهم الوطاسيون الذين أدخلوا العنصر الأجنبي في الصراع عندما قدموا الولاء للأتراك العثمانيين، وانتشرت في زمنهم الفوضى والسيبة، ناهيك عن انتشار الأوبئة والمجاعات وثقافة الرق والعبودية، ثم تكررت الهجومات المسيحية على المغرب، لاسيما من قبل البرتغاليين، الذين احتلوا حينها سبتة وطنجة وأصيلة ثم أزمور وأسفي، وتوغلوا نحو مراكش، خصوصا بعد السلطان أبي عنان.
ولعل أبرز خلاصات الزمن الوطاسي هو أن المجتمع بقبائله وزواياه وأشرافه، كان أقوى من الدولة، انهار التعليم في أواخر فترة حكمهم وانتشرت الأمية والجهل، وأسست عدد من القبائل الأمازيغية والعربية شبه جمهوريات في مناطق نفوذها.
ولعل المغرب سيعرف تحولا عميقا في القرن الخامس عشر الميلادي مع بداية عهد السعديين. شكل ارتفاع الشعور بالانتماء الوطني ولمجتمع واحد وإلى ووحدة المصير داخل حدود وطنية واحدة، وفشل الحكام الوطاسيين في صيانة وحدة وحدود المغرب، أهم العناصر التي هيأت لتسيد السعديين.
تقوى الشعور بالانتماء الوطني أيضا بسبب ارتفاع التهديدات وعودة الهجمات الصليبية الإيبيرية الأوروبية ضد المغرب. خاض السعديون معارك حاسمة، قوت شوكتهم منذ معركة وادي اللبن سنة 1558، ضد العثمانيين والانتصار على الأتراك، إلى معركة وادي المخازن والانتصار على الحملة الصليبية الإيبيربة الأوروبية سنة 1578.
يميز حكمهم بوجود شرعية دينية للسلطان الشريف النسب، وتقوية سيادة الدولة، وتوحيد البلاد وإعادة تأسيس أجهزة الدولة ومؤسساتها، ناهيك عن التوسع الخارجي الديني والتجاري. لقد كان ذكاء السعديين بارزا في خلق التوازن الإقليمي المجاور أو في منطقة البحر الأبيض المتوسط واللعب على التناقضات الدولية، وإدارة العلاقات الدولية بحكمة وبراعة، في الانتقال بسلاسة بين مختلف مصالح القوى العظمى وقتها بدون التعرض لضغوطات بل شكلوا قطبا اقتصاديا وسياسيا تخطب وده القوى الكبرى عالميا حينها.
لقد حاول مؤسس الدولة السعدية، وهي من المفارقات التاريخية المهمة، مساعدة الجزائريين في التحرر من العثمانيين، لكنهم غدروا به، وانقلبوا عليه ويقول المؤرخون أنهم هم من قتلوه وقطعوا رأسه وسلموه للعثمانيين رغم أنهم كانوا قد التمسوا دعمه في تحرير البلاد من الأتراك. غير أن وريثه أحمد المنصور الذهبي كان متحفظا في التعامل معهم، وفي نفس الوقت صنع قوة جعلتهم يهابون الاقتراب من المغرب.
بنى المنصور الذهبي مصانع البارود وأسطولا حربيا بحريا أرعب الأتراك والبرتغاليين. لقد أسس لعناصر العقيدة الديبلوماسية والسياسة الخارجية، سيتفيد منها كثيرا أبناء عمومتهم العلويون، فيما بعد بشكل ملموس وعميق.
تميزت هذه الدول المتعاقبة على حكم المغرب، منذ المرابطين إلى السعديين، بقصر مدة حكمهم التي لم تتجاوز في أعظمها القرنين من الزمن، غير أن عهد العلويين الذي بدأ في الفرن السابع عشر الميلادي، سيكون أطول ربما لأنهم امتلكوا عناصر تقاطع بين كل فترات الحكم السابقة، من شرعية دينية، وذكاء دولي، ونزعة وحدوية، وطموح إمبراطوري. ولعلهم أيضا استفادوا من قراءة تاريخ من قبلهم وتعلموا منه الكثير إن في فرز الخاطئ من الصائب في السلوك والقرار، وفي ضبط حركة الاندفاع والطموح وفي تدبير التناقضات الداخلية والدولية.
وقد تكون أيضا الجغرافيا المغربية، عاملا من عوامل تواجد المملكة في قلب العالم، وفي إعطاء أوراق ضغط دولية لا ينبغي الاستهانة بها. كما قال المؤرخ دانييل ريفيت جغرافيا المغرب لم تحكمها أي حتمية جغرافية، بل أعطت لهذا البلد أكثر من خيار طبيعي، ووفرت له خيارات انفتاح متعددة على العالم.
جغرافيا المغرب جعلت منه على الدوام، قناة للتواصل الحضاري بين الشرق والغرب وبين الجنوب والشمال.
العلويون أسسوا دولة خبرت جيدا دروس التاريخ. لقد تعايشوا مع حركات مناوئة وأخرى صديقة عبر التاريخ. تفاعلوا مع الزوايا والقبائل واحتجاجاتها، تعاطوا مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنبوا الصدامات الخارجية والدولية ونجحوا في كل صدام مع القوى الدولية والإقليمية. عاشوا الاستعمار والحجر الأجنبي، قارعوا مختلف الأفكار من تسلف وتصوف وتشيع ومذاهب دينية وسياسية كثيرة. تجاذبوا مع الإيديولوجيات اليمينية واليسارية وعاشوا تحت قرع كؤوس الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، خبروا حركات وأفكار الانفصال والانقسام الداخلي وحتى العائلي، لاسيما في أزمة الثلاثين سنة للحكم بعد وفاة مولاي إسماعيل منذ 1827 إلى 1857، ودور المرأة حينها ولاسيما السلطانة الصحراوية الفقيهة والعالمة خناثة بنت بكار والدة السلطان عبد الله بن إسماعيل وجدة السلطان محمد الثالث، صانع المغرب الحديث كنا يقول عبد الله العروي. تكررت أزمة الحكم أيضا بعد وفاة السلطان المولى محمد بن الله، فتنازع الأمراء الأشقاء على أيهم يحصل على البيعة لقيادة البلاد، فتخاصم الأمراء المولى هشام والمولى اليزيد، والمولى سليمان وغيرهم. هذه الخصومات شكلت فيما بعد تجربة استخلصت منها الأسس التي ينبغي أن تؤسس عليها وراثة الملك، وهي ما تم دسترته في دستور المملكة من توريث الابن الذكر الأكبر أو من يراه الملك مناسبا من أقرب المقربين.
السلطان مولاي اسماعيل ساهم في تأسيس دولة موحدة، أسس قواعد للتفاوض الدولي والدبلوماسي، وعاصر عتاة الملوك الأوروبيين، أمثال ملك فرنسا لويس الرابع عشر، وعين السفراء لديهم أمثال السفير رايس قراصنة سلا عبد الله بن عائشة، ووحد البلاد، وأرسى لبنات دولة مؤسسات ودولة مرافق قوية.
تأسست قوة السلاطين العلويين، على التوفيق ما بين التدبير الديني للدولة والمجتمع، وما بين تحقيق القوة والاستقلالية عن القوى الأجنبية. وإن من السلاطين العلويين من تحصل من العلوم الشرعية والفقهية ما أهله لمقارعة علماء المشرق وإصدار الفتاوى وكتابة الشروح والتفسيرات للمتن القرآني وغيرها من المواضيع. كما أنهم امتلكوا من الشجاعة والذكاء في تدبير العلاقات الدولية للمغرب، وهزموا قوى عظمى ودمروا جيوشها على حدود البلاد.
السلطان محمد بن الله أو محمد الثالث حفيد مولاي إسماعيل وخناثة بنت بكار، تميز برؤية قد تكون محافظة في قراءة التدين المغربي. يعتبره المؤرخون أحد أكبر وأهم الشخصيات العلوية من حيث الكاريزما السياسية والحضور الثقافي والمعرفي، وأنه صانع للمغرب الحديث. حارب الفرنسيين على مشارف تطوان وطرد البرتغاليين من مازاغان، التي ارتبط لها البرتغاليون ارتباطا أسطوريا وخرافيا، وبنى مكانها مدينة الجديدة، وتعاقد مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد الاعتراف بها وتبادل الرسائل مع الرئيس جورج واشنطن، وخلق توازنا جديدا مع أطماع بريطانيا العظمى بهذا الاعتراف.
السلطان مولاي سليمان، انتصر للعثمانيين والليبيين، في ما يسمى بحروب شواطئ طرابلس. دمر أجزاء من الأسطول الأمريكي بعدما أعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1801. رجل تميز بالزهد وحب المعرفة الدينية والشرعية وكتب الكتب وأصدر الفتاوى المعتدلة، وقارع بعض علماء الوهابية، وانتهج سياسة احتراز من الغرب وأوروبا، لاسيما وهو سلطان عاصر الثورة الفرنسية، والقائد نابوليون الذي لم يجرؤ إلى القيام بأي حملة عسكرية ضد المغرب. لقد كان السلطان سليمان بقراراته بما ذلك سياسة الاحتراز التي لعب فيه صناعتها العلماء دورا كبيرا، إنما جسد بذلك دور الحارس الوفي على قيم المغرب والمغاربة أمام زحف مخيف حينها لقيم غربية لا تستقيم مع ذهنية البلاد. كما اصطدم مع بعض أشقائه الذين حاولوا طرد اليهود، وعمل تأمينهم ومنح الحماية لهم لممارسة التجارة والكسب.
ولعل وصيته بتنصيب ابن أخيه المولى عبد الرحمان بن هشام، بعده سلطانا على المغرب، تحمل معنى بليغا عن شخصية المولى سليمان وتدينه الشديد. ومما جاء في هذه الوصية: «ما أظن في أولاد مولانا الجد عبد الله ولا في أولاد سيدي (محمد الثالث) والدي رحمه الله، ولا أولاد أولاده، أفضل من مولاي عبد الرحمن بن هشام ولا أصلح لهذا الأمر منه، لأنه -إن شاء لله- حفظه الله لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب. ولو ملك ملك المشرقين… ويصوم الفرض والنفل ويصلي الفرض والنفل. وإنما أتيت به من الصويرة ليراه الناس ويعرفوه. وأخرجته من تافيلالت لأظهره لهم، لأن الدين النصيحة. فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم، كما صلح سيدي محمد جده، وأبوه حي. ولا يحتاجون إلي أبدا ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء لله. وكان من اتبعه اتبع الهدى والنور. ومن اتبع غيره اتبع الفتنة والضلال. وأحذر الناس من أولاد يزيد، كما حذر والدي. وقد رأى من اتبعه أو اتبع أولاده كيف خاض الظلمة ونالته دعوة والده، وخرج على الأمة. وأما أنا فقد خفت قواي ووهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا حفظني الله في أولادي والمسلمين. آمين».
تميز القرن 18 بتكالب القوى الامبريالية الغريبة على دول الجنوب. واستعمروا دولا عربية وافريقية كثيرة منها دول الجوار وعلى رأسها الجزائر سنة 1830، هذا الاستعمار الذي جر على المغرب دسائس ومؤامرات أوروبية بعدما تبين عدم قدرة المغرب على نصرة الجزائر عسكريا، لينطلق مسلسل ابتزاز المغرب والتضييق عليه، منذ معركة إيسلي ثم اتفاقية للامغنية سنة 1845.
غير أن مجيء السلطان المولى الحسن الأول، عمل بداية على توحيد البلاد من جديد وإدخال القبائل والزوايا تحت طاعة السلطان حتى لا يسهل ابتلاعهم من قبل القوى الاستعمارية. السلطان الحسن الأول أطال بشكل ملحوظ زمن استقلال المغرب وفرنسا كانت قد أسست كل قواعدها بالجزائر بشكل قوي.
السلطان عبد الحفيظ بن الحسن، تميز هو الآخر بروح قتالية ومناورة كبيرة لعدم تمكين الاستعمار من المغرب. وقد تأسس حكمه بعد عزل شقيقه الأصغر من الحكم المولى عبد العزيز، على ما عرف تاريخيا بعقد البيعة المشروطة بينه وبين كبار المبايعين من علماء وأعيان، على الذود على استقلال المغرب والدفاع عنه أمام الأطماع الأجنبية. غير أنه بعد توقيع اتفاقية الحماية الشيء اعتبر عدم القدرة على الوفاء بعقد البيعة المشروطة، تخلى عن الحكم لفائدة أخيه السلطان المولى يوسف.
خلال فترة الاستعمار، لعب السلطان محمد الخامس بوعي وطني مسؤول لاسيما منذ بداية الأربعينيات، فتطابقت رغبة الحركة الوطنية في تحرير البلاد مع رغبته، وناور داخليا وخارجيا بشكل مكشوف من أجل تحقيق هذه الرغبة.
الملك الحسن الثاني كان لزمنه طعم آخر ممزوج ما بين الرغبة في استكمال بناء دولة مستقلة بشكل تام، وما بين التجاذبات السياسية والإيديولوجية الداخلية والخارجية، التي كادت أن تعصف بالدولة ككل وبنظامها السياسي، لولا ذكاء وحزم وريث محمد الخامس. لقد أجلت الصراعات السياسية الداخلية، تنمية البلاد وإقلاعها اقتصاديا وبشريا وخلفت ندوب وجروح حقوقية صعبة النسيان. كانت صراعات فكرية نظرية حول تصور شكل الدولة والنظام، صراعات منبعها خارجي في زمن الحرب الباردة بين قطبي الشرق بزعامة الاتحاد السوفييتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك كله فقد كانت فترة الحسن الثاني مدرسة في تدبير التناقضات، وخلق الجسور الديبلوماسية الدولية، والوساطة في النزاعات الحارقة، مما جعل المغرب حينها مناط احترام القوى العظمى ودول المنطقة العربية والإسلامية بشكل ملحوظ.
كلها محطات زادت من قوة الملكية العلوية، وكونت لها عقلا باطنا، يتم اللجوء إليه بشكل ضمني، باعتباره خزانا غزيرا من الأعراف والتقاليد الكثيفة في تدبير العقليات والأزمات وفي البحث عن حلول مشاكل اليوم الدولية والداخلية. المغرب لم يولد في دستور 2011، وإنما ولد من عمق تاريخ سحيق صنع أمة/دولة عريقة.
هذه الملكية هي النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة حول مشروع وطني لبناء الدولة من منطلق مغربي خالص، في غياب أي تصورات أو مشاريع قطرية حقيقية للبناء. هي المؤسسة الوحيدة التي استطاعت أن توفق بين التاريخ والحاضر من أجل المستقبل بدون حسابات شخصية أو سياسوية وإلا كان مصيرها كعدد من الأنظمة في فضائنا العربي والثقافي والجغرافي: الاندثار والتفكك والتطاحن الدموي. هي المؤسسة الوحيدة التي أتقنت فنون تدبير التناقضات الداخلية والخارجية وخلقت توازنا لاستمرار الدولة والمجتمع، وصانت الوحدة الترابية ودحرت الخصوم، دعاة التمزيق والانفصال.
الملك محمد السادس منذ تربعه على عرش أجداده، عبر بشكل مباشر أو ضمني عن رغباته في توسيع هوامش الحريات، لأنه هو شخصيا يؤمن بذلك عن قناعة راسخة، أعطى بشأنها إشارات عديدة من خلال سلوكه الشخصي، بتخفيف البروتكول التقليدي الرسمي الذي يطوف حول شخص الملك، في سياقة سيارته شخصيا بشكل شبه دائم، والوقوف عند إشارات المرور، اختيار أصدقاء من الفئات الشعبية والفنية والرياضية وغيرها.
لقد تحول المغرب خلال عهد الملك محمد السادس، إلى ورش تنموي كبير ومفتوح. لا يمكن إنكار ذلك وإلا سيكون جحودا وأنانية مقيتة.
فتحت طرق سيارة كثيرة وموانئ عالمية ومطارات ذات جودة راقية، ومستشفيات جامعية ومدارس وكليات وقناطر ومدن جديدة وغيرها. لم يكن طلبة وجدة والجهة الشرقية مثلا، يحلمون يوما ما أن تصير لديهم كلية طب ومستشفى جامعي. لم تكن ساكنة الشرق تحلم يوما أن الطريق إلى فاس سيكون في وقت وجيز عبر طريق سيار سريع.
ويكفي أن نستحضر تبصر واستباقية الملك منذ سنوات في توفير طائرة كانادير لإخماد الحرائق، التي لا تتوفر عليها دول بترولية تسمي نفسها قوة عسكرية ضاربة.
عبر كل ربوع المملكة شيدت المرافق بالعشرات، بنيت الطرق الجديدة، تم ربط القرى والجبال بالمدن وبضرورات الحياة. منجزات بالعشرات صرفت عليها ملايير الدراهم، غيرت وجه المغرب، وساهمت في إشعاعه عبر العالم وأكسبته ثقة شركاء ومستثمري الخارج. المغرب كاد أن يصبح بقعة أرض مظلمة في عدد كبير من أرجائها، فأصبحت مع الملك الشاب في ظرف وجيز منارة مضيئة تفوقت على كل بلدان الجوار وتجاوزتهم بسنوات من العمل والإنتاج. لم يكن أصحاب الرأي والمواقف، المستقلون طبعا يحلمون بمغرب أكثر حرية، يقولون اليوم وينتقدون بدون أن تلفق لهم التهم السياسية ليزج بهم في السجون. انتهى زمن الرصاص والدم، نهاية لا يمكن لأحد أن ينكرها. بل قطع المغرب معها بسنوات ضوئية، وإلا كان منتقدو الملكية اليوم في تزمامارت عصرية تليق بهم.
استثمارات كبرى حلت بالمغرب، وأخرى مغربية حلت بدول إفريقية شقيقة وصديقة، شغلت الآلاف وانتجت ثروة مضاعفة، عززت قوة المغرب على الخريطة الإقليمية والدولية. كلها مشاريع أعطى انطلاقتها وأشرف عليها ذلك الملك الذي تولى الأمور. لذلك من المجحف أن نقول أن تحركات الملك كانت معيقة للتنمية، بل كانت هي قاطرتها ومحركها الرئيسي والأول. ماذا عسى الملك أن يفعل أمام فاعلين غير مبدعين لأفكار جديدة، لا يتقنون سوى فن النقد، منشغلين بحسابات ضيقة تافهة أمام حجم وجسامة مهمة بناء وعاء وطني تعيش فيه مختلف الأجيال والثقافات، فاعلين يثيرون الشفقة غير قادرين على بناء تصورات تنموية حقيقية؟ ماذا عساه أن يفعل سوى أن يحل محلهم وأن يصبح رئيس ورش كبير؟
ومع ذلك فإن كل السلاطين كانت لهم جيوب مقاومة ظاهرة وباطنة، تدافع عن مصالح قد تمسها قرارات السلطان في جنب ما، ولا يمكن أن يكون الملك محمد السادس بمنأى عن هذه القاعدة التاريخية في تدبير مصير الأمم.
الملك ليس مطلوبا منه أن يعطي تعليمات يومية وفي كل القضايا. الملك لا يوجه القياد والمعلمين والقضاة ورجال الأمن في كل ربوع المملكة في كل جزئيات عملهم، بل هم يتصرفون من تلقاء أنفسهم وبناء على قناعاتهم الشخصية. عندما يتسببون في خسائر وأضرار للمواطنين فليس من المعقول أن يقال أن هذا حدث بأمر منه، وإنما من أنفسهم، بناء على ثقافاتهم وقناعاتهم فأحدثوا الأذى للناس وسببوا أيضا ضررا لصورة الدولة ككل. الإشكال الحقيقي هو في العقليات والذهنيات المغربية، في ثقافة التدبير العمومي التي ينبغي أن تفكك لتسهل عمليات مرور قطار التنمية الذي يقوده الملك. فعلا مازالت الانتظارات كبيرة وقوية، لكن لا يمكن الملك لوحده أن يصنعها، بل هي أيضا مسؤولية باقي الفاعلين عليهم أن يتحملوها بهاجس وطني مواطن.
خلال جائحة كوفيد 19 أظهر الملك محمد السادس قيادة منقطعة النظير للدولة. خلق جبهة عريضة تمتد من الأمني إلى الصحي إلى الدولي إلى الغذائي إلى المالي والبنكي وغيرها، من أجل نجاة الأمة من الوباء، وحفظ كرامة المواطن وصيانة مدخوله، وتوفير اللقاح مجانا..
وفي أثناء ذلك، كان الملك يشتغل على جبهة أخرى دولية لصيانة استقلال القرار الداخلي، وصد كل المبتزين للمغرب. لقد قاد شخصيا مفاوضات طويلة مع الضفة الأوروبية، تكللت بالاعتراف الحقيقي والملموس، بالمغرب كشريك لا يقل مرتبة عن أي دولة أوروبية، مما يعيد تذكيرنا بتاريخ السلاطين الذين سبقوه، وطرق تدبيرهم للتوترات الدولية والعالمية لاسيما مع دول أوروبا.
(…)ما هو نصيب كل واحد منا في بناء هذا الصرح الكبير الذي هو الدولة المغربية؟
كل واحد منا مطالب فقط بتحقيق ما ينبغي تجاه الجماعة، في إطار عمره وحياته. ذلك أن بناء الأمم مسلسل ومسار لا ينتهي عند جيل واحد. أجيال قد تمر لن تنعم بالحرية، تكون مساهماتها محصورة في بناء المرافق وتشييد الطرقات وغيرها من الأمور المادية. أجيال أخرى ستعكف على بناء الثقافة والفنون والآداب. أجيال أخرى ستبني الديمقراطية والحريات. على كل جيل أن يعرف قدره ومكانته وحجمه والانتظارات الكبيرة، وأن يشرع في الأولويات وألا يكون مستبدا ظالما لنفسه يحاول أن يستأثر بعمل الأجيال اللاحقة لقرون في المستقبل، وصانعا أوهاما لا تمت للعيش بصلة.
حتما أعطى هذا الملك الكثير للبلاد في عهده وهذا جهده لينتصب أمامنا سؤال جوهري ينبغي على كل واحد منا طرحه على نفسه. ماذا أعطيت أنا في أي موقع كنت، كمواطن عادي، كمسؤول، كموظف عمومي، كمستخدم شركة أو تاجر، كسياسي، كرجل اقتصاد وأعمال، كناشط اجتماعي، كمثقف، كأستاذ، كإعلامي، ماذا أعطى كل واحد منا لهذا البلد وللجماعة المغربية؟ ماذا قدمت أنت وأنا من أجل تطور المغرب حتى نعطي لأنفسنا حق نقد الدولة وقائدها؟
الجواب ينبغي أن يكون مسؤولا ووجوديا لتكون النتيجة نقطة تحول فاصلة في السلوك نحو مستقبل آخر.
باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط
تعليقات ( 0 )