تراجع النقابات يحمل مخاطر انهيار الوساطة المؤسساتية

تنسيقات الشارع.. رصاصة الرحمة لجسد نقابي “عليل”

إذا كانت من فترة صعبة زادت في إضعاف الفاعل النقابي، فلن نجادل في القول بأنها فترة عبد الإله بنكيران..فحقبة رئاسة الرجل للحكومة جعلت المركزيات النقابية أسودا بدون أنياب..فلا هي استطاعت أن تعبئ أتباعها من أجل إسقاط القرارات اللاشعبية التي تم اتخاذها في عهد الرجل، ولا هي استطاعت أن تحافظ على بعض من مصداقيتها لدى الموظفين والأجراء.

لقد كانت تجربة بنكيران، وعلاقته المتوترة مع النقابات، ضربة غير مسبوقة لهذه الهيئات لاسيما في مرحلة الشروع في إصلاح نظام المعاشات المدنية..فقد فشلت مختلف النقابات في إرغام الرجل على الجلوس إلى طاولة الحوار وسحب مقترحه، بينما ذهبت نقابة العدالة والتنمية بعيدا بدعمها لذلك المخطط المشؤوم.

النتيجة كانت سيئة وذات وقع سلبي على الوساطة بين الدولة والمجتمع. فقد تراجعت قدرة النقابات على التأثير في القرارات الكبرى التي لها علاقة مباشرة بالأوضاع المهنية والاجتماعية والاقتصادية للموظفين والأجراء، حتى إن وجودها أصبح أقرب إلى تأثيث المشهد النقابي بفاعلين مؤسساتيين تقضي الضرورة وجودهم.

وضع أدى مع مرور الوقت إلى الضرب بشكل مباشر في قنوات الوساطة، وباتت عدد من القطاعات، لاسيما في التعليم والصحة، تشهد بروز آليات غير مؤسساتية للضغط على الفاعل الحكومي، من خلال إحداث تنسيقيات أو لجان للدفاع عن الملفات المطلبية في ظل فشل الفاعل النقابي في القيام بدورهم.

مجالسة التنسيقيات

لقد جرى العرف ألا تجالس الحكومة إلا النقابات التي تتوفر على تمثيلية، وفي ذلك انتصار للوساطة المؤسساتية مع المجتمع وتوضيح لمسارات وآليات التفاوض من أجل انتزاع الحقوق، وفق مساطر مضبوطة للتفاوض..غير أن الذي وقع في السنوات الأخيرة أن وزارة التربية الوطنية مثلا اضطرت للجلوس إلى طاولة الحوار مع تنسيقية ما يعرف بالأساتذة المتعاقدين، في خطوة لا تخلو من رسائل غير مطمئنة على تراجع دور النقابات في التأطير والترافع، رغم حضور هذا المكون في الاجتماع الذي انعقد مؤخرا من أجل إضفاء “الشرعية”.

ففي ظل تراجع المكون النقابي والحزبي عن القيام بدوره كاملا في الوساطة بين الدولة والمجتمع، بدأ يبرز الحضور القوي للتنسيقيات كمنافس ميداني للهيئات التقليدية رغم عدم وجود اعتراف رسمي بهذه الإطارات من طرف السلطات العمومية بسبب طبيعة تنظيمها باعتبارها لا تنسجم مع المقتضيات القانونية المنظمة للعمل النقابي أو الجمعوي، وأيضا فيما يتصل بطبيعة مطالبها وعدم استعدادها لإبداء بعض التنازلات مقابل نيل بعض المكاسب.

عموما، لقد بدأ ظهور هذه التنسيقيات بالدفاع عن بعض القضايا الملحة للمواطنين، وعلى رأسها مواجهة غلاء الأسعار والدفاع عن القضايا الاجتماعية من قبيل الصحة والتعليم والتدبير المفوض وغير ذلك من الخدمات. وقد انطلقت هذه التنسيقيات أساسا بمبادرات محلية في بعض مدن الهامش، قبل أن تتحول اليوم إلى تنسيقيات وطنية تؤطر عشرات الآلاف من المواطنين كما هو حاصل اليوم في ملف الأساتذة المتعاقدين.

غياب الفاعل النقابي والحزبي عن بعض المطالب الملحة سواء لعموم المواطنين أو بعض الفئات المهنية جعل هذه التنسيقيات تتقوى، في ظل ديمقراطية داخلية تفرز القيادات من داخل الفئات التي تعبر عن المطالب. فعدم التعبير عن انتظارات المواطنين أو الدخول في تسوية غير مرضية لا تستجيب لتطلعات الفئات التي تدافع عنها النقابات أو الأحزاب، تدفع هذه الفئات إلى البحث عن بدائل أخرى للدفاع عن مطالبها بشكل مباشر سواء من خلال خلق منافذ للحوار المباشر مع الجهات المسؤولية أو بسلك آليات الضغط من قبيل الإضرابات أو الحركات الاحتجاجية.

وإذا كان من مؤشر مقلق يمكن الوقوف عنده، ونحن نحلل طبيعة أدوار التنسيقيات، هو سقف مطالب الأخيرة وطريقة اتخاذها للقرار عندما يتعلق الأمر باللجوء إلى آليات الضغط من أجل الاستجابة للمطالب. ففي ظل وجود سقف عال من المطالب، التي لا تستطيع النقابات أو الأحزاب التفاوض حولها وإقناع صانع القرار بالاستجابة لها، كما هو الحال بالنسبة للإدماج في الوظيفة العمومية والذي يستلزم توفير أزيد من 100 ألف منصب مالي، تلجأ التنسيقيات إلى التصعيد بناء على دعم قاعدة الفئات التي تدافع عنها، وذلك من خلال أشكال تصعيدية قد تصل حد الإضرابات المفتوحة إلى غاية تلبية المطالب.

تنسيقيات مهنية واجتماعية

يرى عدد من الخبراء ضرورة التمييز بين بعض التنسيقيات ذات الطابع المهني الفئوي، وتلك التي انبثقت في سياق حركات اجتماعية محلية، كما هو الحال بالنسبة لما عرف بحراك الحسيمة أو جرادة. ولعل ما يجعل هذه التنسيقيات تتقوى ويبرز دورها في الضغط هو أن الهيئات التمثيلية التقليدية لم تعد تؤدي دورها باعتبارها مؤسسات للوساطة بين المجتمع الدولة.

فإذا كان لهذه التنظيمات القانونية والمنصوص عليها في الدستور دور تمثيلي من خلال عكس مطالب الفئات التي تمثلها وبلورتها والقيام بإيصالها إلى صاحب القرار، باعتبار أن لها تمثيلية شرعية ودورها الأساسي هو أنها تستقي الحاجات والطلبات والرغبات وتبلورها في صيغة مطالب في أفق أن يتم التجاوب معها بشكل كلي أو جزئي، فإن الوضع اليوم مختلف.

اليوم أضحت النقابات والأحزاب غير قادرة على القيام بدور الوساطة لأسباب يرجع جزء كبير منها إلى ما هو ذاتي. وأمام ترهل هذه الهيئات وعدم قدرتها على حمل مطالب المجتمع للتفاوض حوله أمام الدولة، بما يأخذ بعين الاعتبار سقف الإمكانيات والمصلحة العامة، أصبح المواطن اليوم يلجأ إلى التنسيقيات مع ما يحمله ذلك من مخاطر كبير في إمكانية تعرضها لـ”الاختراق” وتحويل مسارها نحو أمور لا علاقة لها بالمطالب التي أسست من أجلها، وقد كانت بعض الأحداث شاهدة على عمليات “الركوب” على الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي لتحويل مسارها نحو أهداف “سياسوية” ليس إلا.

لكن هل هذا يعني موت النقابات؟ عمليا، ينتهي دور التنسيقيات بتحقيق المطالب التي أسست من أجلها. ففيما يتعلق مثلا بالتنسيقية الوطنية للأساتذة المتعاقدين، فإن تحقيق مطلب الإدماج قد يؤدي إلى تفكك هذا التنظيم الفئوي، وهو الأمر الذي ينطبق على عدد من التنسيقيات. غير أن المؤكد هو أن الوصول إلى تحقيق المطالب، قد يجعلنا أمام لحظات توتر تؤثر على السلم الاجتماعي، في ظل مطالب بسقف مرتفع لا يعترف في كثير من الأحيان بمنطق التنازل من أجل تحقيق المكاسب.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي