لن نزايد على الحكومة إذا قلنا بأن شركات المحروقات باعت الوهم للدولة في قرار التحرير. فالفاعلون الذي طمأنوا الحكومة والمغاربة قدرتهم على تلبية احتياجات السوق الوطنية دون أي مشاكل، في سياق صراع شرس مع مالك شركة “لاسامير”، هم أنفسهم الذين يتهربون اليوم من ضمان المخزون الاستراتيجي في حدوده الدنيا المنصوص عليها في القانون، والمقدرة بستين يوما.
ماذا وقع حتى أصبحت بلادنا لا تتوفر على أقل من شهر في مخزون “الغازوال”، الذي يبقى الأكثر استعمالا في بلادنا؟ سؤالا في تفاصيل يكمن “الشيطان”، لاسيما عندما نسلط الضوء على كثير من مواطن العتمة التي حكمت عملية التحرير، وأصبحت اليوم عنوان العلاقة بين شركات المحروقات والدولة والمستهلك.
التفاصيل التي كشفتها عنها ليلى بنعلي، وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، تفرض أن تعلن حالة التعبئة الشاملة في صفوف الحكومة في سياق دولي قد يجعلنا نستفيق يوما على وقع أزمة حقيقية في وفرة المحروقات، وليس فقط في أسعارها المرتفعة بشكل قياسي وفوق طاقة المستهلكين.
مخزون “البريكولاج”
حسنا فعلت وزيرة الانتقال الطاقي ليلى بنعلي حينما خرجت من داخل قبة البرلمان لتقطع الشك باليقين وتضع المغاربة أمام حقيقة وضعية مخزون المحروقات المتوفرة، في سياق أزمة عالمية لا ترتبط فقط بالأسعار بل تطرح تهديدات حقيقية على مستوى الإمدادات التي قد تتأثر في حال اشتداد التوترات القائمة.
عموما، يتوفر المغرب على قدرات تخزين للمواد البترولية السائلة تصل إلى حوالي 1.3 مليون طن، منها 93 في المائة متصلة بالموانئ، و324 ألف طن بالنسبة لغازات البترول المسيلة، 88 في المائة منها متصلة بالموانئ. لكن رغم توفر هذه القدرات المهمة، فإن واقع المخزون المتوفر يعكس مستوى متدنيا جدا، وبعيدا عما تفترضه القوانين الجاري بها العمل.
في اللقاء الذي جمعها بأعضاء مجلس النواب، كشفت الوزيرة أنه إلى حدود يوم الاثنين 11 أبريل 2022، بلغ مخزون المواد البترولية السائلة 789 ألف طن، و191 ألف طن بالنسبة لغاز البوطان، و701 ألف بالنسبة للفحم الحجري. وأضافت المغرب يتوفر على مخزون يقدر بـ437 ألف طن من الغازول، وهو ما يكفي لسد حاجيات البلاد لمدة 26 يوما فقط، فيما يبلغ مخزون البنزين 83 ألف طن، وهو ما يغطي حاجيات 43 يوما. أما مخزون المغرب من وقود الطائرات يبلغ 36 ألف طن، وهو ما يكفي لسد الحاجيات لـ34 يوما فقط.
وشددت الوزيرة أن المنظومة الحالية تحدد الحد الأدنى لمخزون المواد البترولية في 60 يوما، لكن ذلك لم يفعل على مدى 20 سنة الماضية. وعلقت الوزيرة على هذه الوضعية بالقول “بصريح العبارة، لم يتم للأسف تفعيل هذه المنظومة، وهو ما دفعنا إلى العمل على إقرار منظومة جديدة لتدبير هذا المخزون”.
هذا يعني أن الدولة مدعوة إلى التدخل من أجل ضمان أمننا الطاقي، وبأن قرار التحرير وجعل كل شيء بيد الشركات إنما كان أسوأ قرار يمكن أن يتخذه الفاعل الحكومي، لاسيما وأن المعطيات التي سنسردها فيما بعد توضح كيف أن هذه الشركات التي ذهبت تلهت وراء الأرباح، جعلت نفسها غير معنية بالأمن الطاقي..فهي في نهاية المطاف تشتري المحروقات وتبيعها كأي تاجر في السوق.
الشركات ولغز المخزون
ما الذي يجعل المغرب يتوفر اليوم على مخزون من الغازوال يكفي فقط لـ26 يوما، في وقت يفترض أن يصل إلى 60 يوما؟ سؤال يفترض أن تجيب عليه الحكومة والشركات، لكن في غياب توضيحات دقيقة من الوزيرة، وعدم وجود مخاطب من الشركات بعد تراجع تجمع النفطيين عن التواصل بسبب تنبيهه في فترة سابق إلى ما يثير ذلك من خرق للمنافسة، طرقت “ميديا 90” باب مصادر خبيرة من أجل حل لغز المخزون.
وفق هذه المصادر، فإن توفير 60 يوما من المخزون الاحتياطي يستلزم استثمارات مهمة سواء على مستوى قدرات التخزين أما يتصل بالمنتجات البترولية. فمن أجل الوصول إلى قدرات التخزين الضرورية، فإن الأمر يتطلق استثمارات تصل إلى 8 مليار درهم، بينما يستلزم الاستثمارات في المنتجات أزيد من 25 مليار درهم، وهو رقم قابل دائما للتغير حسب تقلبات الأسعار.
لكن من سيتحمل كلفة هذه الاستثمارات؟ هنا يكمن الخلاف بين الشركات والفاعل الحكومي. فالشركات تعتبر أن المخزون الاستراتيجي من مسؤولية الدولة، وبأنها غير مستعدة وليست لديها الإمكانية لضخ كل هذه الاستثمارات من أجل الوصول إلى 60 يوما المنصوص عليها قانونا.
وضعا يجعلنا اليوم أمام الأرقام التي قدمتها الوزيرة، منها رقم 26 يوما فيما يتعلق بالغازوال، علما أن يبقى متوسطا على اعتبار أن هناك تفاوتا واضحا بين الشركات الكبرى والمتوسطة والصغيرة. وضع تسعى الحكومة إلى التعامل معها انطلاقا من مقاربة قانونية، في وقت يفترض أن تتحمل الشركات مسؤوليتها لاسيما وأن الأرباح التي راكمتها منذ قرارا التحرير سنة 2015 تمنحها كل الإمكانيات للاستثمار في المخزون والمنتجات أيضا.
جدل الربح والخسارة
بعد الارتفاع الذي عرفته أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، تم تسريب معلومات تتحدث عن كون شركات المحروقات تقوم ببيع الوقود بسعر الكلفة، وهو أمر يثير الكثير من علامات الاستفهام، حتى وإن كان على هذه الشركات أن تتحمل بدورها جزء من تداعيات هذه الأزمة بدل أن نكبد المواطن لوحده وزرها.
لكن الذي وقع أمس في مجلس النواب هو أن الوزير بنعلي أدلت بتصريحات تتحدث عن كون الشركات تبيع بالخسارة، وهو أمر بعيد جدا عن البيع بسعر الكلفة. فما تفاصيل تصريح الوزيرة؟ لقد أشارت بنعلي، في اللقاء الذي جمعها بالنواب البرلمانيين، إلى أن هوامش بيع المحروقات أصبحت سلبية في ظل الأزمة الحالية. غير أن الوزيرة رفضت أن تكشف عن الشركات التي تبيع بالخسارة، معتبرة أن ذلك من مهام مجلس المنافسة.
وإذا كانت الوزيرة رمت بكرة “الربح والخسارة” في ملعب مجلس المنافسة، فإنها في المقابل قدمت توقعاتها بشأن تطور الأسعار في حال ارتفعت أثمان البترول في الأسواق الدولية، حيث قد تصل إلى أزيد من 20 درهما للتر في حال استمرت هذه الوضعية.
تعليقات ( 0 )