ارتفاع قياسي في أسعار الغذاء حول العالم.. مخاوف من اندلاع “ثورات الجياع” في الدول الفقيرة

بلغة الأرقام، تقول منظمة الأمم المتحدة للزراعة والأغذية (فاو)، إن مستويات الجوع ارتفعت عالميا بنحو 118 مليون شخص عام 2020، لتقفز إلى 768 مليون شخص، وهي الأعلى منذ عام 2006. وعدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي -أو من اضطروا إلى تقليل احتياجاتهم من الغذاء كماً أو نوعاً- ارتفع بمقدار 318 مليوناً ليصل إلى 2,38 مليار. وفي عام 2021، كان أكثر من 800 مليون شخص يعانون من الجوع، بحيث اقترب 45 مليون شخص من حافة المجاعة، بسبب جائحة كوفيد-19 والانكماش الاقتصادي، مما جعله عاما “دخل التاريخ”. ولن يكون العام 2022 بأحسن حالا من سابقَيْه، إذ تذهب التوقعات إلى استفحال أزمة الغذاء بالوتيرة نفسها أو أسوأ، على الأقل خلال العام الجاري.
وإذا كان وباء كورونا سببا في عودة الجوع (نقص الطعام) والمجاعة (فقدان الطعام)، فإنه لا يتحمل وحده المسؤولية في استمراره. فكما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “لم تعد المجاعة والجوع متعلقين بالغذاء. بل أصبحا الآن من صنع الإنسان إلى حد كبير، وأنا هنا أستخدم المصطلح عن قصد. وهما في ارتفاع”. فهل تواجه البشرية أزمة غذاء عالمية جديدة، ستؤدي إلى اندلاع ثورات الجياع في البلدان الفقيرة قريبا؟
أعلى موجة غلاء في عقد
لا يمكن الزعم بأن الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء فاجأ العالم. فقد سبق لصندوق النقد الدولي حثَّ في تقرير أصدره الخريف الماضي، حول “التوقعات الاقتصادية العالمية”، صناع السياسة على الاستعداد لاتخاذ إجراءات سريعة من أجل تعزيز الانتعاش بسرعة أكبر من المتوقع، بسبب مخاطر التضخم الواضحة. وكان من نتيجة ذلك أن ارتفعت الأسعار من الغذاء إلى الدواء، إلى السيارات، إلى الأجهزة الإلكترونية ورقائق الحواسب الآلية في جميع أنحاء العالم. وهو ما يُهدد الانتعاش العالمي بعد أن قضى الوباء على الشركات والوظائف.
وأظهر مؤشر عالمي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، أن أسعار الغذاء في يناير الماضي ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ 2011، عندما ساهم الارتفاع الصاروخي في الأسعار في اندلاع الانتفاضات السياسية في مصر وليبيا. فقد واصلت أسعار اللحوم ومنتجات الألبان والحبوب الارتفاع منذ ديسمبر الماضي، بينما وصل سعر الزيوت إلى أعلى مستوى منذ بدء تتبع المؤشر في عام 1990.
وأثرت الزيادات على أنواع معينة من الأغذية أكثر من غيرها، مثل الحبوب والزيوت النباتية والزبدة والمعكرونة ولحم البقر والقهوة. وبحسب مؤشر الفاو المذكور، فقد ارتفعت أسعار أهم السلع الغذائية بين عامي 2020 و2021 “، كالتالي: الحبوب ارتفعت 27,2% (القمح ارتفع 44,1%، والذرة 31,3%، في حين انخفض الأرز 4%). بينما ارتفعت الزيوت النباتية بنسبة 65,8% لتبلغ أعلى مستوى على الإطلاق. وارتفع السكر  29,8%، وهو أعلى مستوى منذ 2016، واللحوم ارتفعت 12,7%، والألبان ارتفعت 16,9%.
وتأتي هذه الزيادات في الوقت الذي يواجه فيه المزارعون في جميع أنحاء العالم مجموعة من التحديات، في مقدمتها الجفاف. فقد كشف خبراء صندوق النقد الدولي بأن الجفاف وسوء الأحوال الجوية، في البلدان الزراعية الرئيسية المنتجة، مثل البرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا أدى إلى تفاقم الوضع. وأيضا العواصف الجليدية التي دمرت المحاصيل، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والوقود، ونقص العمالة بسبب وباء كورونا، واضطراب سلسلة التوريد التي تجعل من الصعب توصيل المنتجات إلى الأسواق، بسبب نقص في الحاويات المطلوبة لأجل نقل السلع وارتفاع أسعارها. إضافة إلى زيادة الطلب، لا سيما في الصين. كما زاد الوضع سوءا  إثر توالي كوارث طبيعية، تراوحت بين الأعاصير والفيضانات التي أثرت على المحاصيل وفاقمت أزمة الغذاء.
لن تستقر الأسعار في 2022
ترى منظمة الفاو بأنه “على الرغم من أنه يُتوقع عادة أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى زيادة الإنتاج، إلا أن ارتفاع كلفة المدخلات (خصوصا الأسمدة الزراعية) واستمرار جائحة كورونا، وتقلب الظروف المناخية أكثر من أي وقت مضى، كلها مسائل لا تترك مجالا للتفاؤل بشأن عودة الأسواق إلى حالة أكثر استقرارا حتى في عام 2022”. وتباعا لذلك، قد تقفز فاتورة استيراد الغذاء العالمية أكثر من المتوقع إلى مستوى قياسي العام الجاري، ما يزيد خطر الجوع، خصوصاً في أفقر الدول. من المتوقع أن ترتفع أسعار المواد الغذائية الدولية بنحو 45 في المئة خلال العامين الحالي والمقبل، منها 25 في المئة خلال العام الحالي، و20 في المئة خلال العام المقبل. ويعني ذلك زيادة كبرى في أسعار المواد الغذائية الاستهلاكية.
وتكشف هذه الأزمة مدى تواضع تقديرات مدير الفاو للقضاء على الجوع بحلول عام 2030، والتي كان قد قَدَّر بأنها تتطلب ما بين 40 إلى 50 مليار دولار. فهذه المبالغ تعد زهيدة مقارنة بقيمة الناتج المحلي الإجمالي للعالم، الذي تقدره قاعدة بيانات البنك الدولي بنحو 84,8 تريليون دولار. فبلا شك، لن يكفي ذلك المبلغ للقضاء على الجوع الذي ينهش قرابة ربع البشرية.
ما يكشف بأن أصغر الحروب التي تدور في مناطق عدة في العالم حاليا، تكلف أضعاف ما تحتاجه الاستثمارات اللازمة للقضاء على الجوع من العالم.
في سياق ذلك، تتوقع الكثير من المؤسسات المالية الدولية سيناريوهات متشائمة للعام الجاري. ومنها “رابو بنك” الذي مقره أمستردام الهولندية، الذي يتنبأ ببقاء أسعار الغذاء قرب مستوياتها القياسية الحالية خلال 2022.  ويتوقع تقرير الاتجاهات العالمية لأسعار السلع الاستراتيجية، أن تواصل أسعار الزيوت النباتية (زيوت الطبخ) ارتفاعها في البورصات العالمية خلال ما تبقى من الربع الأول من العام 2022، لتستكمل منحي الصعود الـقياسي الذي بدأته في 2021.هكذا يواصل زيت الصويا (الصوجا الذي يستهلك بكثرة في المغرب كـ “زيت للمائدة”) منحى صعوده خلال الربع الأول من 2022، ليرتفع من 1216 دولارا للطن في ديسمبر الماضي، إلى 1258 دولارا للطن في تعاقدات مارس المقبل؛ أي بزيادة تبلغ 42 دولارا في الطن، وبذلك يصل معدل التغير في السعر إلى 61٪ مقارنة بنفس الفترة العام السابق.
مخاوف من “ثورة الجياع”
منذ نهاية عام 2019، ارتفع مؤشر الأمم المتحدة لأسعار المواد الغذائية بنحو الثلث، نتيجة لمجموعة من العوامل تضافرت في زيادة أسعار الأغذية بمعدلات كبيرة، ومع بقاء هذه العوامل دون تغيّر حاليا، فمن المتوقَّع استمرار الأسعار المرتفعة خلال العام الحالي وربما العام القادم أيضا.
وتذهب تنبؤات الخبراء إلى أن هذه المرة ستكون أسوأ من أزمة 2007-2008، من حيث ما يدعونه “انعدام الأمن الغذائي الحاد الناتج عن الحروب”. ويعتبر الوضع في إفريقيا صعبا، وقد يخرج عن السيطرة في العديد من بلدان هذه القارة، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا وجنوب السودان والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وأيضا اليمن وأفغانستان وهايتي وفنزويلا، التي قد تتأثر أيضا بشكل كبير. وإذا لم يسرع المجتمع الدولي بإيصال المساعدات بشكل عاجل إلى أفغانستان، فقد تخسر المحاصيل ويكون الوضع مأساويا.
لقد جعلت الحروب والأزمات الاقتصادية الجوع حقيقة مرة في حياة الكثيرين. لكن هذه المرة حتى أكثر الحكومات استقرارا باتت قلقة على استقرارها من تأثير ارتفاع أسعار الأغذية على نطاق عالمي. وحذر أحد كبار الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي في تصريحات صحفية، من أن ارتفاع أسعار الغذاء من شأنه أن يجهد الدخل في البلدان الفقيرة، لا سيما في بعض أجزاء أمريكا اللاتينية وإفريقيا، حيث ينفقون ما يتراوح بين 50 أو 60 في المئة من دخلهم على الغذاء. ومؤكدا بأنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن العالم يقترب من أزمة غذاء عالمية؛ وأن تباطؤ النمو وارتفاع البطالة والميزانيات المرهقة من الحكومات التي أنفقت بكثافة لمكافحة الوباء قد تسببت في غضب شديد وسط الشعوب.
تعد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة السودان، واليمن، ولبنان، وتونس، ومصر، الأكثر تضررا من ارتفاع أسعار الغذاء.
فبعض تلك الدول تشهد انقلابات وتغييرات في النظام، أو حربا أهلية، أو انهيارا اقتصاديا. وبالتالي يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار
تضخم هذا التأثير في باقي مناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ حيث يعتبر الخبز عنصرا أساسياً في التغذية. فالمعروف أن غلاء أسعار الغذاء كان في مقدمة الأسباب التي فجرت ثورات الربيع العربي، بحسب بعض التحليلات الجيوسياسية.
أزمة فوسفاط ومحروقات أيضا
من أهم أسباب ارتفاع أسعار الغذاء هو ارتفاع أسعار الأسمدة الزراعية لندرتها. فدول مثل بوليفيا التي كانت تصدرها إلى بيرو، على سبيل المثال، أصبحت تصدر كميات أقل بكثير. وروسيا فرضت بعض القيود على تصدير أسمدتها. والصين التي تنتج ربع الأسمدة في العالم أصبحت تستوردها الآن. ولذلك فإن الضغط على هذا القطاع مختلف عما سبق أن واجهه العالم من قبل. فالتوقعات تذهب إلى أنه مع ارتفاع أسعار الغذاء عالميا لأعلى مستوى، منذ أكثر من عشر سنوات، فإن زيادة أسعار الأسمدة الزراعية ستزيد بدورها الضغوط على قدرات شراء الناس للغذاء. لاسيما في الدول المعتمدة على الاستيراد، في وقت لا تسمح الضغوط على الميزانيات بدعم الحكومات للأسعار، وفي وقت دمر فيه الوباء أرزاق ملايين لا حصر لهم، فإن تأثير ارتفاع أسعار الغذاء على الفقراء بصفة خاصة شديد. وهنا مكمن الخطر.
لقد ارتفعت أسعار الأسمدة العام الماضي بسبب تزايد الطلب وانخفاض المعروض. وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم لمستويات قياسية، مؤديا بدوره إلى خفض الإنتاج في قطاع الأسمدة الذي يستهلك كميات كبيرة من الطاقة. فزاد سعر اليوريا أكثر من 200% هذا العام، بينما ارتفع سعر فوسفاط الأمونيا إلى مثليه تقريباً.
وتشير الشواهد إلى استمرار زيادة أسعار الغذاء -على الأقل- في الأجل المتوسط، أي خلال العام الجاري، وذلك بسبب ما تشهده أسواق النفط من ارتفاعات متتالية، يُتوقع لها أن تصل في النصف الأول من العام الجاري إلى 90 دولارا للبرميل. بل بعض التقديرات ترى بأن سعر النفط سوف يقترب من 100 دولار للبرميل. وحال تحقق سيناريو استمرار ارتفاع أسعار النفط، فسوف ينعكس ذلك على كثير من مستلزمات إنتاج الغذاء ونقله وتوزيعه على مستوى العالم؛ وبالتالي ستكون الدول النامية والأقل نموًا في مأزق. خاصة الدول التي تعتمد في تحقيق الأمن الغذاء على الاستيراد، وللأسف كل الدول العربية تقع تحت هذا التصنيف.
ونبه مدير واحدة من أكبر شركات الأسمدة إلى أن الندرة العالمية في الأسمدة تؤدي إلى ارتفاع أسعارها، ما يدفع بالدول الأكثر فقرا في العالم إلى أزمة غذائية. وقال سفين تور هولستر، مدير شركة يارا إنترناشيونال، إن ارتفاع أسعار الغاز يدفع إلى زيادة أسعار الأسمدة، وهو ما يؤثر على أسعار الأغذية في العالم. ويحتاج إنتاج الأسمدة إلى كميات كبيرة من الغاز، ما اضطر شركات إنتاج الأسمدة إلى تخفيض إنتاجها بسبب ارتفاع أسعار الغاز، وبالتالي إلى ندرة الأسمدة في الأسواق العالمية.
وثمة عامل آخر سيساهم في رفع تكاليف الغذاء خلال الفترة القادمة، ويتمثل في ارتفاع تكاليف الشحن، بسبب ما يعتري خطوط النقل والإمداد من تعثر وبطء منذ بدء أزمة كورونا. فبعض الخبراء يرى أن أسعار الشحن الآن ارتفعت بنحو 4 إلى 5 أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل جائحة كورونا. فالحاوية ذات التي كان شحنها يكلف نحو ألفي دولار، أصبح سعر شحنها يتجاوز الآن أكثر من 10 آلاف دولار. وبالنتيجة، فإن ارتفاع أسعار الشحن -بلا شك- سوف يؤثر بشكل كبير، على أسعار الغذاء وكذلك على تأمين المخزونات الاستراتيجية منه لدى الدول النامية والأقل نموا.
 

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي