تذهب تحليلات الخبراء إلى أن الطاقات المتجددة باتت تمثل رهانا جيوسياسيا حقيقيا، وأداة رئيسة من أدوات القوة الناعمة للدول في القرن الحادي والعشرين. ويقع الهيدروجين الأخضر الذي يعتمد في إنتاجه على الطاقات المتجددة في قلب هذا الرهان، بحيث أصبح التموقع على لائحة منتجيه طموحا يحرك كثيرا من دول العالم.
ورغم أن المغرب ليس البلد الوحيد الذي لديه طموح مُعلَن بهذا الصدد على المستوى الإفريقي، إلا أنه يتفوق على القلة القليلة من دول القارة (في مقدمتها مصر) التي تنوي دخول هذا السباق، بفضل نقاط القوة التنافسية التي تتوفر عليها المملكة. ولعل في مقدمتها قرب المغرب من أوروبا، وتمتعه بمصداقية لا تخفى في مجالات الطاقة الخضراء. وهو ما يجعل منه الشريك المفضل لإنتاج الهيدروجين الأخضر. وبوأه احتلال المرتبة الخامسة في العالم على مؤشر المستقبل الأخضر للعام 2021، الذي طوره معهد ماساتشوستس الأمريكي للتكنولوجيا، متقدما في ذلك حتى على دول مثل الدنمارك وفرنسا.
وفي تقريرها الأخير الصادر قبل شهر، صنفت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة المغرب رابعاً عالميا، على قائمة الدول التي ستحقق ريادة الهيدروجين الأخضر مستقبلا. وبالفعل، فإن مجال إنتاج هذه الطاقة الصديقة للبيئة بدأ يشهد تدفق استثمارات ضخمة، من المنتظر أن تحول تماما وجه المغرب على المدى المتوسط، خصوصا أقاليمه الصحراوية.
يتزايد الاهتمام بسرعة بالهيدروجين الأخضر، بين الدول كما بين شركات النفط والغاز الكبرى عبر العالم، في وقت تفيد الدراسات بأننا نعيش مقدمات نهاية “عصر النفط”. وبالتالي سوف يصبح الهيدروجين بعد 30 عاما من اليوم (في 2050) مثل النفط اليوم، لكنه بديل أنظف وأسهل استغلالا منه. ولذلك تُخطط أوروبا ̶̶مثلا̶ لجعل الهيدروجين الأخضر جزءا أساسيا من مشروع انتقالها الطاقي الذي يتوقع أن يتكلف تريليون دولار، حيث ينتظر أن تنشر استراتيجية الهيدروجين الأخضر على مستوى الاتحاد الأوروبي بالكامل في شهر يوليو 2021.
والمغرب ليس بمعزل عن هذا التوجه العالمي، إذ سارع إلى بلورة استراتيجيته للهيدروجين الأخضر في ارتباط باستراتيجيته المتكاملة حول الانتقال الطاقي (من المصادر الأحفورية إلى الطاقات المتجددة). ولتجاوز الصعوبات التكنولوجية والتمويلية التي تعترض هذا الطموح الكبير، تراهن بلادنا على عقد شراكات مع غربية وعالمية.
المغرب الرابع عالميا
كشف تقرير دولي عن أن خريطة تجارة الطاقة الدولية ستشهد تغيرات جذرية خلال السنوات المقبلة، بالتزامن مع ظهور عدة دول، من بينها المغرب، لأداء دور رئيس في سباق الهيدروجين، الذي سيستحوذ على حصة كبيرة من سوق النفط والغاز.
وتوقع تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)، الذي حمل عنوان “الجغرافيا السياسية لتحول الطاقة.. عامل الهيدروجين”، أن يؤدي النمو السريع في سباق الهيدروجين العالمي إلى تحولات جغرافية اقتصادية، ما يمهد إلى ظهور مراكز نفوذ جيوسياسي جديدة، على أساس إنتاج الهيدروجين واستخدامه بالتوازي مع تراجع تجارة النفط والغاز.
وكان المغرب قد دخل في شراكة مع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في 14 يونيو 2021، لمرافقة تحوله إلى اقتصاد الهيدروجين الأخضر. ويأتي ذلك بالتزامن مع مساعيه لزيادة طموحاته في مجال الطاقة النظيفة، ورفع مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الكهرباء الوطني بنحو 30%.
ويشير التقرير إلى أن المغرب يستعد لأن يصبح رائدا عالميا في تصدير الهيدروجين الأخضر، إلى جانب كل من ناميبيا والشيلي، إذ قدرت الوكالة أن الهيدروجين سيغطي ما يصل إلى 12% من استخدام الطاقة العالمي بحلول عام 2050. وكانت تقديرات سابقة لخبراء تتوقع ان تنتج المملكة حوالي 4% من حاجة العالم من الهيدروجين الأخضر في أفق العام 2030.
ووفق التقرير المشار إليه، فقد احتل المغرب المرتبة الرابعة عالميا بين الدول المرشحة لتصبح منتجة رئيسة للهيدروجين، بعد كل من أستراليا والشيلي والسعودية، متقدما على العديد من الدول التي تستحوذ على حصة كبيرة من تجارة النفط والغاز حاليا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والجزائر وقطر وسلطنة عمان والإمارات والمملكة المتحدة. بل إن التقرير وضع المغرب على خريطة البلدان التي يمكن أن تبرز باعتبارها قيادة عالمية، في سباق الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2050. وعلى الرغم من أن المغرب ليس مُصدرا للهيدروجين حاليا، فإنه من المتوقع أن يكتسب أهمية جغرافية استراتيجية كبيرة على الخريطة العالمية لمصدري الهيدروجين النظيف، وفقا لخبراء الوكالة.
وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة قائمة مصدري الهيدروجين الأخضر المستقبليين بناءً على عدة معايير، من خلال الاستفادة من تكاليف الإنتاج المنخفضة والقدرة على إنتاج الطاقة المتجددة الموجودة بالفعل؛ لذا يبرز المغرب لأداء دور رئيس في جذب استثمارات كبيرة في قطاع الهيدروجين الأخضر.
رهان استراتيجي
في مواجهة التحديات المناخية والبيئية، يفرض المغرب نفسه تدريجيا كرائد حقيقي قاريا وعالميا في مجال الطاقات المتجددة. وذلك بفضل الرؤية الاستراتيجية بعيدة النظر التي ينهجها منذ أكثر من عقد. وهكذا، انصب طموح المغرب نحو مصدر للطاقة تم الحديث عنه كثيرا في السنوات الأخيرة، وهو الهيدروجين الأخضر، الذي يعتبره المراقبون بمثابة الذهب الأخضر المستقبلي وحجر الزاوية في التحول الطاقي الأوروبي. وهذه الأسباب وأخرى غيرها يهدف المغرب إلى أن يصبح مُصدِّرا عالميا رئيسيا له.
ولأجل ذلك اتخذ المغرب عديد الإجراءات بينها إنشاء لجنة الهيدروجين الوطنية في عام 2019، بهدف توجيه ومراقبة استكمال الدراسات في هذا المجال، وكذلك لفحص تنفيذ خارطة طريق إنتاج الهيدروجين. ثم وضع خارطة طريق وطنية للطاقة الهيدروجينية التي تشمل بناء مصنع للهيدروجين الأخضر بحلول عام 2025، وأن يصبح مُصدِّرا رئيسيا له بحلول العام 2030. كما تم إطلاق سلسلة من مشاريع البحث والتطوير من طرف وزارة الطاقة وبالتعاون مع الوكالة المغربية للطاقة المستدامة والمعهد المغربي للبحث في الطاقة الشمسية والطاقات الجديدة، تهدف إلى تحويل المغرب إلى رائد إفريقي في الطاقات المتجددة ومنتج يلبي الطلب العالمي الكبير على الهيدروجين الأخضر.
ومن خلال وضع الهيدروجين في صميم استراتيجيتها الطاقية للمستقبل، تعتزم المملكة الاستفادة من موقعها الجغرافي الاستثنائي ومناخها الذي يوفر ظروف إشعاع شمسي ورياح من بين الأفضل في العالم، واحتياطي كبير جدا من الأراضي المؤهلة لإقامة مشاريع الطاقات المتجددة، لتنزيل استراتيجيته في أفضل الظروف.
وليست ألمانيا وحدها المهتمة بالتعاون مع المغرب في هذا المجال. فثمة دول أخرى في القارة الأوروبية أبدت اهتماما متزايدا بالتعاون مع المغرب في مجالات إنتاج الطاقة من مصادر نظيفة. وذلك هو حال بريطانيا العظمى بشكل خاص التي يوجد مشروع تعاون لها مع المملكة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والريحية بالأقاليم الصحراوية.
ويمتلك المغرب القدرة على الاستفادة من موارد الطاقة المتجددة لدعم نمو التجارة البحرية المعتمدة على الكهرباء؛ ففي عام 2019، شهد ثاني أكبر حجم للتجارة البحرية في القارة الأفريقية.
ومع ارتفاع الطلب على التجارة البحرية وسط النمو السكاني، سيستفيد المغرب من الطلب المتزايد على الكهرباء، ومن ثم زيادة الطلب على سوق الهيدروجين المغربية.
كان تقرير صادر عن وزارة الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة المغربية، قد أشار إلى أن الهيدروجين الأخضر يُعَد “حجر الزاوية في التحول الأخضر لقطاعي الطاقة والصناعة” في المغرب.
استثمارات ضخمة
ويبدي المغرب اهتماما كبيرا بتطوير إنتاج الهيدروجين على الصعيد الوطني، حيث أنشأ “لجنة وطنية للهيدروجين” في عام 2019، تبنت خريطة طريق للهيدروجين الأخضر في 2021. وتعتبر خريطة الطريق هذه الهيدروجين الأخضر مصدر نمو رئيسا في الاقتصاد الوطني، حيث يهدف المغرب إلى إمداد السوق الوطنية بـ 4 تيراواط/ساعة من الطاقة، والسوق العالمية بـ 10 تيراواط/ساعة بحلول العام 2030. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يعمل المغرب على زيادة الاستثمار في البنية التحتية الجديدة والمتجددة بقدرة 6 جيغاواط، ودعم خلق أكثر من 15 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة.
وكان المغرب يستهدف 52% من الطاقة المتجددة من إجمالي السعة المركبة بحلول عام 2030، وتقترح خريطة الطريق الجديدة زيادة حصة الطاقات المتجددة إلى 70% بحلول عام 2040 و80% بحلول عام 2050 في مزيج الكهرباء، وهو ما يمكّنه من التوسع في إنتاج الهيدروجين الأخضر.
وفي أواخر يونيو 2021، وافق المركز الجهوي للاستثمار لجهة كلميم -واد نون، على العديد من المشاريع المتعلقة بالطاقات المتجددة، تقدمتها بها خصوصا شركة “توتال إيرين” العالمية المتخصصة في الطاقات المتجددة. وفي ديسمبر الماضي، أضافت الشركة استثمارات أخرى تتعلق بمشروعين لتوليد طاقة الرياح. ومن المقرر أن تنطلق الأشغال الأولى لإنجاز هذا المشروع في العام 2025، بعد الانتهاء من الدراسات التمهيدية، لينطلق الانتاج عمليا في أفق 2027.
وستخصص الشركة الأم “توتال إينيرجي” التي تتبع لها شركة “توتال إيرين”، استثمارات ضخمة لهذا المشروع بحجم 100 مليار درهم على مساحة 170 ألف هكتار؛ حيث ترغب المجموعة في تنفيذ مشروع هجين لإنتاج الهيدروجين والأمونيا الخضراء، بقدرة تصل إلى 10 جيغاوات، إلى جانب حقل عملاق لتوربينات تحويل الرياح إلى كهرباء. وهو حجم إنتاج كبير يكفي للتصدير وتأكيد مكانة المغرب كرائد في مجال الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر.
وكان ثلاثة فاعلين عموميين مغاربة وقعوا قبل أسابيع على اتفاق-إطار للتعاون، من أجل إقامة أول منصة تكنولوجية مخصصة للبحث والتطوير في مجال الهيدروجين الأخضر وتطبيقاته. ويتعلق الأمر بكل من المكتب الشريف للفوسفاط، ومعهد البحث في الطاقة الشمسية والطاقات الجديدة (التابع لوزارة الطاقة)، وجامعة محمد السادس للتكنولوجيا بابن جرير، الذين اتفقوا على خلق هذه المنشأة العلمية الأولى على الصعيد الإفريقي، لتشكل قاعدة رائدة تشرف على إطلاق مشاريع للبحث العلمي المتطور، وإقامة منشآت صناعية لإنتاج الهيدروجين الأخضر مستقبلا.
ومن المنتظر أن تقام هذه المنصة التي تحمل اسم GreenH2A، في قلب المنطقة الصناعية بالجرف الأصفر مبدئيا على مساحة خمسة هكتارات قابلة للتوسيع. وتتضمن بناية تحوي مختبرات داخلية ومكاتب للباحثين، وأيضا مرافق أخرى خارجية ملحقة بها. وسيكون من شأن هذه اللبنة التكنولوجية المتطورة، أن تُسَرّع جهود المغرب في تطوير وإنتاج الهيدروجين الأخضر في بلادنا.
وتجدر الإشارة إلى أن أحد المشاريع الأولى لمنصة Green H2A هو محطة إنتاج تجريبي لما قبل الصناعة، بحجم إنتاج يبلغ 4 أطنان يوميا من الأمونيا الخضراء، مجهزة بقدرة تحليل كهربائي تبلغ 4 ميغاوات.
إنتاج الهيدروجين الأخضر.. استثمار عالمي جديد ضخم بـ 100 مليار درهم بجهة كَلميم

تعليقات ( 0 )