في المغرب، لا تحتاج لأن تكون سياسيا بارعا لتصل إلى السلطة، يكفي أن تمتلك النفوذ الكافي ليصنع السياسة من أجلك. هذا هو جوهر قصة عزيز أخنوش، رجل الأعمال الذي وجد نفسه على رأس المشهد السياسي المغربي، رغم أنه لم يُعرف كرجل خطابة قوي، ولا يملك قدرة على إدارة الأزمات، ولا يتمتع بحضور كاريزمي يجعل منه زعيما..
ومع ذلك، يحكم أخنوش اليوم واحدة من أقوى الحكومات في تاريخ المغرب الحديث، ويتمتع بنفوذ لا يضاهى..
فكيف وصل إلى هنا؟ ولماذا يستمر في البقاء رغم التحديات التي كانت كفيلة بإسقاط أي سياسي آخر؟
في المشهد المغربي، لم يعد الصعود إلى السلطة رهينا بالقدرة على الإقناع أو تقديم مشروع سياسي متكامل، بل أصبح مرتبطا بمنظومة نفوذ أكبر من السياسة نفسها.
عزيز أخنوش لم يصنع نفوذه من خلال الأحزاب أو البرلمان، بل صنعه عبر المال، وعبر شبكة من المصالح الاقتصادية التي تترابط مع الدولة بشكل يصعب تفكيكه.
كرجل أعمال، يدير أخنوش واحدة من أقوى الإمبراطوريات الاقتصادية في المغرب، تمتد من المحروقات إلى الفلاحة، ومن التموين إلى التأمين. هذه السيطرة على قطاعات حيوية جعلت منه أكثر من مجرد سياسي، جعلته لاعبا محوريا في الاقتصاد الوطني، بحيث لم يعد ممكنا عزله عن الدولة دون أن ينهار جزء من المنظومة الاقتصادية نفسها.
لم يصل أخنوش إلى رئاسة الحكومة لأنه خاض معركة سياسية قوية أو لأنه قدم خطابا مقنعًا للشعب. بل وصل إليها لأن الدولة نفسها كانت بحاجة إلى شخصية يمكنها ضمان استقرار المصالح الاقتصادية، والتماهي مع استراتيجية الحكم دون أن تشكل مصدر إزعاج أو تهديد.
في انتخابات 2021، لم يكن المشهد مجرد انتصار انتخابي لحزب التجمع الوطني للأحرار، بل كان إعادة تشكيل كاملة للخارطة السياسية، حيث سقط العدالة والتنمية، وانهارت الأحزاب التقليدية، ليُترك المجال مفتوحا أمام رجل أعمال لا يملك تاريخا نضاليا أو سياسيا، لكنه يملك ما هو أهم: شبكة مصالح محكمة، ودعما مؤسساتيا قويا.
في العادة، ضعف السياسي يجعله مهددا بالسقوط، لكن في حالة أخنوش، هذا الضعف هو بالضبط ما يجعله باق في السلطة. لماذا؟
لأن السياسي القوي، القادر على المناورة وإثارة الجدل، يصبح خطرا،أما السياسي الضعيف، الذي لا يملك مهارات خطابية ولا قدرة على خلق شعبية حقيقية، فهو الخيار المثالي: يمكن التحكم به، وتوجيهه، وعزله متى استدعى الأمر، دون أن يشكل صداعا حقيقيا.
من هنا، يبدو أن ضعف أخنوش السياسي ليس عائقا، بل هو أحد الأسباب التي تجعله خيارا مفضلا. إنه رئيس حكومة بلا طموح سياسي حقيقي،وبلا نفوذ خارج إطار السلطة التي وضعته في مكانه. وهذا بالضبط ما يجعله مستمرا.
أحد العوامل التي تجعل أخنوش محصنا من السقوط، رغم الاحتقان الاجتماعي، هو أن نفوذه الاقتصادي يمنحه أوراق ضغط لا يملكها أي سياسي آخر.
في قطاع المحروقات؟ أخنوش هو أحد أبرز الفاعلين في القطاع، وأي قرار اقتصادي ضده يعني اهتزاز السوق.
في الفلاحة؟ يدير شبكة مصالح كبرى تتحكم في السوق الفلاحي، مما يجعل أي أزمة اقتصادية تنعكس عليه مباشرة، والعكس صحيح.
في الإعلام؟ يملك تأثيرًا كبيرا على المشهد الإعلامي، إما عبر الاستثمار المباشر، أو عبر الإعلانات التي تحدد من يبقى ومن يختفي.
بهذه الطريقة، يصبح أي تحد لأخنوش ليس مجرد صراع سياسي، بل صراع مع منظومة اقتصادية كاملة..
منذ توليه الحكومة، واجه أخنوش موجات من الاحتجاجات، من حملة “أخنوش ارحل”، إلى تصاعد الغضب بسبب ارتفاع الأسعار، إلى الفشل في إدارة ملفات كبرى مثل التعليم والصحة. ومع ذلك، لا يزال في موقعه، ولا تبدو هناك نية لإزاحته قريبا. لماذا؟
لأن وجوده ليس مرتبطا برضا الشارع، بل برضا من وضعوه هناك. والمطلوب منه لم يكن أبدا أن يكون سياسيا ماهرا أو زعيما شعبويا، بل أن يكون ضامنا لاستمرار مصالح محددة، ورجل الحكومة الأول لمرحلة انتقالية لا تتطلب مغامرات سياسية.
رغم كل هذا، يبقى أخنوش سياسيًا هشا، لأن قوته ليست نابعة من ذاته، بل من شبكة المصالح التي تدعمه. ومثل أي رجل أعمال، فإن سقوطه لن يكون عبر صندوق الانتخابات، بل عبر لحظة تقرر فيها الدولة أن تكلفة بقائه أصبحت أكبر من تكلفة رحيله.
حين يصبح الاحتقان الشعبي غير قابل للضبط، وحين تتحول الأزمات الاقتصادية إلى خطر حقيقي على الاستقرار، عندها فقط سيتم البحث عن بديل، وسيُترك أخنوش لمصيره، مثلما تُرك سياسيون قبله.
أخنوش لم يصل إلى السلطة لأنه سياسي استثنائي، بل لأنه كان الرجل المناسب لمرحلة معينة، حيث كانت الحاجة إلى رئيس حكومة، بلا طموح شخصي يقلب المعادلات، وبلا قدرة على تشكيل قوة ذاتية خارجة عن السيطرة.
أخنوش ليس زعيما سياسيا، لكنه أقوى من كثير من السياسيين، ليس لأنه يمتلك الرؤية أو القدرة، بل لأنه جزء من معادلة تجعل من رجال الأعمال رجال دولة، وتجعل من رجال الدولة مجرد تفاصيل في مشهد أكبر.
لكن في عالم السياسة، لا شيء يدوم إلى الأبد. وحين تتغير المصالح، فإن من صعد بسرعة، قد يختفي بسرعة أكبر، لأن في نهاية المطاف، السلطة لا تحتمل الفراغ..
تعليقات ( 0 )