نظمت الجزائر السبت الماضي ما أسمته «الدورة الأولى لأيام الريف» استدعت فيها من أسمتهم بـ«نشطاء الريف» ممن يحملون رؤية انفصالية تدعو لفصل الريف عن المغرب، وهي خطوة استفزازية، تكشف عن جزء من رهانات الجزائر ضد وحدة وسيادة التراب الوطني المغربي.
البعض يعتقد أن ما أقدمت عليه الجزائر هو جزء من سياسة رد الفعل تجاه مواقف مغربية سبق التعبير عنها، وبالأخص، تصريحات ممثل المغرب الدائم للأمم المتحدة السيد عمر هلال باجتماع لجنة 24 سنة 2021، لما اعتبر « أن الجزائر لا تفتأ تطالب بتطبيق حق تقرير المصير في الصحراء المغربية، وتنسى أن هناك سكانا على ترابها يطالبون بتمكينهم من الاستفادة من حق في تقرير المصير» فاعتبر هذا البعض أن الأمر يندرج ضمن سياسة الرد بالمثل، فما دام المغرب أقدم على استعمال ورقة القبائل، فللجزائر الحق في استعمال ورقة الريف!
في الواقع، هذا التفسير مستبعد لسببين، أولهما، أن السيد عمر هلال قدم هذه التصريحات في سياق السجال، ومطالبة الجزائر باستعمال منطق واحد في تبني مفهوم تقرير المصير، فإذا كانت تطالب به في الصحراء، فلماذا لا تقبل به بالنسبة للقبائل. ما يؤكد ذلك، أن المغرب لحد الساعة لم يقدم أي دعم لحركة «الماك» من أجل إعلان إدراج القضية القبائلية في اللجنة الأممية المعنية بتصفية الاستعمار.
الثاني، أن السيد عمر هلال أدلى بهذه التصريحات سنة 2021 واستمرت تصريحاته على نفس الشاكلة، أي إثبات تناقض الجزائر في التعاطي مع مبدأ الحق في تقرير المصير، لا الإيحاء بأن المغرب سيقدم الدعم لحركة «الماك» من أجل خلق دويلة وسط الجزائر، ولم تقدم الجزائر منذ 2021 بأي رد فعل مشابه، باستعمال ورقة الريف، مما يؤشر أن لجوءها اليوم لذلك جاء في سياق مخصوص، برره ما وصل إليه صراع الدبلوماسيتين الجزائرية والمغربية.
الكثيرون يعتقدون أن هذه الخطوة جاءت كرد فعل على هزائم الجزائر الدبلوماسية المتكررة في ملف الصحراء، بعد أن كسب المغرب تحول الموقف الأمريكي والإسباني والفرنسي في اتجاه دعم السيادة الوطنية على الصحراء، واعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي أساسا واقعيا لحل النزاع.
في الواقع، لقد شعرت الجزائر منذ أربع سنوات على الأقل بأن موازين القوى في قضية الصحراء اختلت لصالح المغرب، وأنها أضحت مخاطبة من قبل مجلس الأمن، باعتبارها طرفا أساسيا في الصراع، بالالتزام بالمشاركة في الموائد المستديرة، ووضع حد لعرقلتها التوصل لاتفاق بين الطرفين، وأيقنت في السنتين الأخيريتين، بعد قرار عدد من الدول العظمى الاستثمار في الأقاليم الصحراوية، بأن القضية تمضي للحل من داخل السيادة المغربية، وأن الأمر صار يستدعي تغيير المخطط بالرهان على ورقة أخرى تقوي بها ورقة الضغط بملف الصحراء.
ربما تعتقد الجزائر أن ورقة الريف سهلة ومؤثرة، ويمكن أن تؤتي ثمارها بسرعة وتخلق حالة من الانقسام الداخلي على خلفية لغوية وتاريخية وسياسية، لكنها في هذا التقدير أخطأت القراءة على أقل من خمس جهات:
أولاها، مبدئي واستراتيجي، فالتوجه إلى دعم الانفصال، لن يضر المغرب وحده، لكنه سيضر الجزائر، وسيدفع بالرباط بالمضي بعيدا في سياسة الرد بالمثل، ومن ثمة ستتحول المنطقة إلى صراع سياسات تدعم الانفصال. في الواقع، لم تنتبه الجزائر بأن سياستها في دعم حركة انفصالية هي جبهة البوليساريو بالاستناد إلى مفهوم مبدأ الحق في تقرير المصير، قد جر المنطقة لحالة صراع أبدي، وعطل كل الفرص الاقتصادية والتنموية والاندماجية في المنطقة، وما من شك، أن الإمعان في استعمال نفس الورقة، سيدفع المنطقة لمزيد من الاحتراب وتكريس واقع القطيعة والتوتر والتصعيد بين البلدين.
الثانية، أن الرهان على مظلومية الريف، لم يعد له أي محل في عهد الملك محمد السادس، الذي لا يوجد في سجله أي خصومة مع هذه المنطقة، فمنذ خطاب أجدير في 17 أكتوبر 2001، والذي وضع الأساس للمصالحة اللغوية والثقافية والتاريخية مع الريف، تراجعت خطابات التبئير والنزعات الانقسامية، ولم يعد للحساسيات العنصرية أي تأثير حتى في الساحات الجامعية.
الثالثة، أن الزيارات المتكررة للملك محمد السادس إلى منطقة الريف، وتحديدا الحسيمة والناظور، والمشاريع الكبرى التي تم تنزيلها في المديتين (مشروع مارتشيكا، ومشروع الحسيمة منارة المتوسط) غير صورة المنطقة بشكل كامل، وفك عزلتها، ومكنها من البنى الأساسية والتجهيزات والخدمات التعليمية والصحية والرياضية التي لا تقل فيها عن أي مدينة كبرى في البلاد.
الرابعة، أن المعطيات الجيوسياسية، تجعل تحقيق مخططات الجزائر في الريف أمرا صعبا، فالأمر لا يشابه في شيء ملف الصحراء، التي تملك الجزائر حدودا معها، وتعترف فيها موريتانيا بجبهة البوليساريو، ويوجد ملف تسوية النزاع بين يد مجلس الأمن، فمع وجود الجزائر على حدود المغرب الشرقية، إلا أنها لا تملك أي منطقة تماس مع الريف، بل لا تملك أي دولة أخرى حدودا مع الريف، تمكن الجزائر من المناورة على الأرض، هذا فضلا عن أنه لا يوجد أي خلاف قانوني أو سياسي بين منطقة الريف وبين الدولة المركزية.
الخامسة، أن ورقة الريف، في ظل الزخم الدولي الذي يحققه المغرب، والعلاقات القوية التي نسجها مع كل من إسبانيا وفرنسا، لا تجد أي احتضان دولي، ولو في الحدود المدنية، وحتى هولندا والسويد التي من عادتهما دعم الإثنيات الأهلية وتشجيع التوترات العرقية، تراجع دورهما في هذا الاتجاه، بالخصوص مع المغرب، بفعل سوابق (احتكاكات دبلوماسية) انتهى فيها الأمر إلى الحذر من تحريك مثل هذه الملفات، خشية الإضرار بمصالحهما الاستراتيجية بالمغرب.
هذه الاعتبارات الخمسة، تدفع للاعتقاد بأن سبب لجوء الجزائر لاستعمال ورقة الريف، ليس فقط فشلها في ملف الصحراء، وإنما الخشية من أن يتحرك المغرب للمطالبة بحقوقه المشروعة في الصحراء الشرقية، ذلك الملف الذي يملك عليه المغرب وثائق إثبات قانونية وتاريخية لا يتطرق إليها الشك، وتملك فرنسا على الخصوص كل الإثباتات الضرورية، خاصة وهي التي منحت الجزائر حقوقا في الصحراء الشرقية على حساب السيادة المغربية. وما من شك، أن اعتقال الكاتب الجزائري ذي الجنسية الفرنسية، بوعلام صلصال، على خلفية تصريحاته بأن فرنسا انتزعت أراضي من المغرب ومنحتها للجزائر، وأن المغرب له أحقية بها، يكشف جانبا من حساسية الجزائر من هذا الملف، فهي تقدر أن تصريحات بوعلام، جاءت على خلفية مناورة فرنسية مغربية لبدء إثارة قضية الصحراء الشرقية.
الجزائر تخشى تطور العلاقات المغربية الفرنسية، وتخشى أن تمكن باريس الرباط من وثائق حساسة، تساعدها ليس فقط على الإثبات القانوني للسيادة المغربية على الصحراء، بل حتى حسم قضية الصحراء الشرقية لفائدة صاحب الحق المشروع فيها أي المغرب.
الجزائر، في الواقع، تقوم بخطوة استباقية، تحاول من خلالها أن تجد التوازن في اللحظة المناسبة، أي اللحظة التي ينتهي فيها المغرب من ملف الصحراء، وينعطف لقضية الصحراء الشرقية، ففي هذه المحطة، فتريد الجزائر بذلك أن تستعمل ورقة الريف مقابل ورقة الصحراء الشرقية.
يملك المغرب خيارات عدة لتفكيك رهانات الجزائر، منها الاستمرار في سياسته التنموية في منطقة الريف، وأن يخطو خطوات أخرى في إطار التنزيل للطابع الرسمي للأمازيغية، وأن يسير في خطى مدروسة ومتقدمة في اتجاه تعميم تدريس الأمازيغية في مختلف الأسلاك التربوية، لكن، تبقى ورقة معتقلي حراك الريف، إذ من الضروري في هذا السياق، المسارعة لحلها، والاشتغال على إدماجهم في محيطهم، وترقية العملية الديمقراطية، بالشكل الذي تنتهي فيه بعض الوجوه السياسية التي أثارت بؤر توتر في المنطقة، وتسببت في تعميق الاحتقان الاجتماعي بالريف.
بلال التليدي
كاتب وباحث مغربي
تعليقات ( 0 )