كسلعة تباع وتشترى، وتخضع لمنطق العرض والطلب، وما يرافق ذلك من احتكار وغياب المنافسة الشريفة، تحول التعليم إلى خدمة تخضعها المؤسسات الخاصة إلى قواعد تستنزف جيوب المغاربة..فبين رسوم التسجيل والتأمين، ومصاريف الكتب واللوازم والتكاليف الشهرية لتمدرس الأبناء، يتحول المواطن المغربي إلى ما يشبه شباكا إلكترونية لصرف أجره ومدخراته على مؤسسات تشتغل بدون حسيب ولا رقيب.
يتجدد النقاش سنويا، وترتفع الأصوات المطالبة بتدخل الوزارة الوصية من أجل وضع حد للفوضى التي يعيشها هذا القطاع، دون أن تجد هذه المطالب آذانا صاغية لدى الجهاز التنفيذي..فجميع الوزراء ظلوا يرفضون التدخل في العلاقات “التجارية” بين المؤسسة التعليمية والآباء، بالرغم من أن الرسوم والتكاليف التي يتم تطبيقها لا تعكس المستوى الهزيل للمنظومة، بل يتم في كثير من الأحيان فرض رسوم غير مستحقة، وعلى رأسها رسوم التأمين.
7700 درهم لكل تلميذ
الفوضى التي يعرفها قطاع التعليم الخصوصي تؤثر بشكل مباشر على نفقات الأسر، التي تتحمل سنويا ميزانية ضخمة دون أن ينعكس ذلك بشكل كبير على مردود التلاميذ المغاربة. فحسب المندوبية السامية للتخطيط، فإن الأسر المغربية تنفق سنويا حوالي 4365 درهما في المتوسط على تمدرس أطفالها، وهو ما يمثل 4.8 في المائة من ميزانيتها السنوية.
وتصل نفقات طفل واحد متمدرس تبلغ 2356 درهما سنة 2019، علما أن هذا الرقم يختلف أخذا بعين الاعتبار وسط السكن ومستوى العيش وقطاع التعليم ومستواه. ويتراوح الحد الأدنى لكلفة تمدرس طفل واحد من 1087 درهما في القطاع العمومي، وصولا إلى 7726 درهما للأطفال في قطاع التعليم الخصوصي.
هذا التحليل جاء بناء على المعطيات الواردة في البحث الوطني حول مصادر الدخل، والذي أنجز ما بين سنتي 2019 و2020. فحسب مستوى التعليم، يتضح أن كلفة تمدرس الأطفال تصل إلى 2125 درهما للتعليم ما قبل الأولي، و1823 درهما للمستوى الابتدائي، و1994 درهما للمستوى الإعدادي، و3412 درهما للمستوى الثانوي، و4311 درهما للتعليم العالي.
ووفق مستوى عيش الأسر، فإن نفقات تمدرس الطفل الواحد مرتفعة 14 مرة لدى 20 في المائة من الأسرة الثرية مقارنة بـ20 في المائة من الأسر الفقيرة، وهو ما يمثل، على التوالي، 7500 درهم و506 دراهم. أما إذا ربطنا هده النفقات بمكان الإقامة، فإن الأسر في العالم القروي تنفق في المتوسط 1484 درهما على تمدرس أطفالها ما يمثل 2.2 في المائة من ميزانيتها السنوية، مقابل 5701 درهم لدى الأسر في المدن ما يمثل 5,6 في المائة من الميزانية السنوية.
وتظهر الأرقام أن الدخول المدرسي لسنة 2019-2020 كلف الأسر المغربية في المتوسط حوالي 1556 درهما، ما يمثل 35,7 في المائة من نفقاتها على التمدرس، و20,4 في المائة من ميزانيتها الشهرية. كما سجلت المندوبية السامية للتخطيط أن نفقات التمدرس تضاعفت أكثر من ثلاث مرات ما بين 2001 و2019، حيث انتقل المعدل من 1227 درهما إلى 4356 درهما سنة 2019.
وزراء يتفرجون
في مختلف الحكومات المغربية، لا يجد وزراء التعليم من جواب على مطالب المواطنين للتدخل من أجل تقنين أسعار التعليم الخاص غير أسطوانة “القانون لا يسمح”..وهكذا، فقد خرج شكيب بنموسى بتصريح في مجلس النواب ليؤكد بدوره أن القانون رقم 06.00 لا يخول للوزارة أية إمكانية للتدخل من أجل تحديد الرسوم والواجبات المطبقة بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي.
هذا الأمر عاد ليجدد التأكيد الوزير في الندوة الصحفية الخاصة بانطلاق الموسم الدراسي. وسجل في هذا الإطار أن لقانون لا يسمح بالتدخل لتحديد أسعار التسجيل بالمؤسسات التعليمية الخاصة، إلا أن القانون الإطار للتربية والتكوين يحث على ضرورة مراقبة الزيادة في هذه الأسعار بين سنة وسابقاتها على مستوى نفس المؤسسة. وفيما يخص الكتب الدراسية التي تعتمدها المدارس الخاصة، يردف بنموسى أن الأخيرة ملزمة لاعتماد نفس الكتب والمقررات الدراسية بالقطاع العمومي، إلا أن القانون يسمح لها بالاستعانة ببعض الكتب التي تراها مناسبة لها.
ربما في تصريحات الوزير بعض من أوجه الصواب، بعدما فشلت الحكومات المتعاقبة في وضع إطار قانوني صارم لمنظومة التعليم الخاص بالرغم من النقاشات والمشاورات الواسعة والصراعات التي دارت حول المدرسة..لكن الوزير نسي أو ربما تناسى بأن التعليم الخاص لا يخضع فقط للقوانين التي تؤطره بشكل مباشر، بل هناك مجموعة من المقتضيات التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في عمل هذه المؤسسات، والتي نذكر منها مدونة الضرائب.
لذلك، سيكون من العبث أن نقول للمغاربة بأن التعليم الخاص يخضع لمنطق السوق وقوانين المنافسة، ونحن نعرف أن الدولة تمنح امتيازات وإعفاءات ضريبية جد محفزة ومشجعة لهذا القطاع ليس لسواد عيون المستثمرين فيه، بل من أجل توفير منظومة موازية للمدرسة العمومية، مع تكاليف غير مستنزفة لجيوب المغاربة.
هذه الإعفاءات تشمل الضريبة على الشركات والضريبة على الدخل والضرائب المطبقة بيع المعدة المستوردة التي تستعمل في المجال العلمي والتربوي، فضلا عن التخفيضات التي تهم واجبات التسجيل عن عمليات اقتناء المحلات، إضافة إلى الامتيازات المقررة في مدونة جبايات الجماعات المحلية. بل أكثر من ذلك، فقد تمكنت عدد من المؤسسات الخاصة في بعض المدن من الحصول على سيارات للنقل المدرسي بشكل مجاني، بالرغم من أنها مؤسسات خاصة.
استثمارات ربحية
حتى بمنطق المنافسة الذي تسعى الوزارة إلى تكريس، هناك قناعة بأن “سوق” المدارس الخاصة يعرف اختلالات كبيرة. فحسب رأي لمجلس المنافسة، فإن هذا السوق يطبعها تباين على مستوى الأسعار والخدمات. كما أنها ترتكز على نموذج
مؤسسات أحدثت استنادا إلى استثمارات ذات أهداف ربحية، ما يجعل الطلب المرتبط بهذا النوع مــن التعليم رهينا بالقدرة الشرائية للأسر، والولوج إلى خدماته شـبه محصور على الأطفال المنتمين إلـى الطبقـة المتوسطة. ويترتب عـن ذلـك ضعـف تغطية المناطق التي تسجل أعلى مستويات من الفقر النقدي. كما يتعارض هذا الواقع مع مبدأ تكافؤ الفرص والإنصاف لتمتيع جميع الأطفال بحقهم الدسـتوري في الولوج إلى التعليم، مـا يسـتدعي ضرورة العمل لتجاوز هذه الازدواجية بـين تعليم عمومي مجاني مكلف ميزانية الدولة وتعليم خصوصي يسعى إلى الربح وتأمين عائدات رؤوس الأموال، وضمان توازن بين المداخيل والنفقات.
ليس هذا فحسب، بل إن وضعية هيئة التدريس تحول دون النهوض بالتعليم المدرسي الخاص. وتعـد هـذه الوضعية نتيجة لشكل من أشكال المنافسة التي تمارسها المدرسة العمومية إزاء مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي، ما ينعكس سلبا على جودة العرض التربوي بصفة عامة، وعلى فعالية المؤسسات التعليمية صغيرة ومتوسطة الحجم بصفة خاصة، والتي تفتقر إلى الموارد الضرورية لتغطية نفقات توظيف أطر تدريسية مشهود لها بالكفاءة العالية. ويرى مجلـس المنافسة أن الوضعية الراهنة تستلزم اعتماد آلية من شأنها الحد من نزوح أسـاتذة التعليم الخصوصي إلى المدرسة العمومية.
وعموما، يتأكد يوما بعد آخر بأن مختلف الإشكالات التي يعاني منها هذا القطاع تعود إلى وجود خلل عميق في المنظومة المؤطرة له. ومن أمثلة ذلك قدم النصوص القانونية وتعدد الهيئات المكلفة بمراقبة المؤسسات التعليمية الخاصة، وضعف الرقابة التي تمارس من طرف جمعية آباء وأولوياء التلاميذ، والأهم هو أن هذا القطاع لا يساهم، بشكل ملموس، في خدمة جودة المنظومة بالرغم من النفقات الكبيرة التي يستنزفها من الأسر والدولة.





تعليقات
0