لم يكن المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك محمد السادس، يوم الأحد بالقصر الملكي بالرباط، مجرد محطة تقنية لتقديم مشروع قانون المالية لسنة 2026، بل كان لحظة سياسية ودستورية مكثّفة المعاني، أعادت رسم ملامح العلاقة بين الدولة والمجتمع في مغرب يعيش تحولات اجتماعية عميقة، قادها جيل جديد لا يُؤمن بالشعارات بقدر ما يبحث عن النتائج.
حين أعلن بلاغ الديوان الملكي أن الاقتصاد الوطني سيحقق نموا بـ 4,8 % مع تضخم في حدود 1,1 % وعجز لا يتجاوز 3,5 %، لم يكن الهدف تباهيا بالأرقام، بل ترسيخ صورة الدولة التي تُدير الأزمات بعقلانية، وتُهيّئ الأرضية لما يسميه الملك بـ “المغرب الصاعد”..
لغة البلاغ لم تكن مالية فقط، بل تنموية برؤية اجتماعية، لأن جوهر المشروع المالي يقوم على إعادة الثقة في الدولة، وربط النمو الاقتصادي بالعدالة المجالية والاجتماعية.
المجلس الوزاري جاء بعد فترة من الاحتجاجات الشبابية التي عبّرت عن تعطّش لجيل يريد أن يُرى ويُسمَع.
ولذلك، بدا واضحا أن قرارات المجلس حملت بصمات هذا التفاعل:
140 مليار درهم لقطاعي التعليم والصحة..
إحداث 27 ألف منصب مالي..
دعم مباشر لأربعة ملايين أسرة، ومواصلة تعميم الحماية الاجتماعية.
كلها إجراءات تترجم الانتقال من منطق التبرير إلى منطق الاستجابة.
الملك أعاد التأكيد على أن الإصلاح الهيكلي هو الضمانة الأولى للثقة.
إصلاح القانون التنظيمي للمالية، وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، وتحديث القضاء، ليست تفاصيل بيروقراطية، بل ركائز لدولة حديثة تضع النتائج قبل النوايا.
وهذا هو جوهر “دولة النتائج” التي بشّر بها الملك في خطاب افتتاح البرلمان.
لا يقلّ البعد السياسي أهمية عن الاقتصادي.
القانونان التنظيميان المتعلقان بمجلس النواب والأحزاب السياسية يمثلان دعوة صريحة إلى إعادة تأهيل السياسة نفسها:
تخليق الممارسة الانتخابية، و تحفيز الشباب دون 35 سنة عبر دعم % 75 من نفقات الحملة، وتخصيص الدوائر الجهوية للنساء.
إنه إعلان نهاية زمن “الوراثة السياسية” وبداية زمن الكفاءة والمساءلة، في إشارة مباشرة إلى أن الإصلاح السياسي لا ينفصل عن الإصلاح المجتمعي.
14 اتفاقية دولية جديدة، منها ما يخص التعاون القضائي والعسكري والضريبي، ليست تفصيلا تقنيا، بل جزء من استراتيجية المغرب لتعزيز مكانته القارية والدولية.
ففي الوقت الذي تُراجع فيه دول كثيرة أدوارها، يؤكد المغرب أنه حاضر في إفريقيا والعالم بشعار: “من أجل شراكات على أساس الندية والتنمية المشتركة”..
المجلس الوزاري الأخير لم يكن مجرد اجتماع دستوري، بل رسالة سياسية بليغة من الملك محمد السادس إلى جيل Z: “نسمعكم… ونتفهم مطالبكم وها هي القرارات”..
من خلال هذا البلاغ، يُؤسس الملك لمرحلة جديدة عنوانها التفاعل المؤسساتي مع نبض الشارع، وبناء مغرب متوازن بين الاقتصاد والسياسة، بين الجيل القديم وجيل Z، بين الدولة والإنسان.





تعليقات
0