970*250
Media90|أعمدة الرأي

رمزية الوزير.. وكابوس الأجير

zakaria 2 cv
300*205

حينما يصف وزير في حكومة تدعي دعم الدولة الاجتماعية مبلغ خمسة عشر ألف درهم سنويا أو خمسون ألف درهم للدراسة بالماستر بأنه رمزي، فنحن نشهد إعلانا صريحا بالانفصال الطبقي التام بين من يقرر ومن يعاني.
تصريح وزير التعليم العالي، حول رسوم تسجيل الأجراء الراغبين في العودة لرحاب الجامعات، هو كشف مؤلم لمدى استخفاف الحكومة بواقع الطبقة المتوسطة المنهكة، وهو إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من أحلامها في الترقي العلمي والاجتماعي. في زمن تآكلت فيه الأجور بفعل غلاء الأسعار، وحيث أصبح الدرهم لا يقوى على سد رمق الأساسيات، تأتينا هذه الرمزية الحكومية كصفعة على وجه كل أجير بسيط يحلم بتطوير كفاءته.
وبالرجوع لخلفية الوزير الأكاديمية، وهو القادم من رئاسة الجامعة والحاصل على دكتوراه الدولة، سيكون من السهل مناظرته حول مفهوم الرمزية ذاته. فالرمزية، يا معالي الوزير، سواء في الفلسفة أو علم العلامات، هي تقنية لتمثيل المفاهيم المجردة، حيث يكون الرمز المادي ذا قيمة ضئيلة، بينما يكون المعنى ذا قيمة هائلة. الرمزية هي أن تقدم رسالة شكر لترمز للاعتراف والتقدير، لا أن تطلب ثروة مقابل التسجيل !
لكن رمزية الوزير الميداوي تمثل نظرية المغرب بسرعتين في أبشع صورها. فالمبلغ الذي اعتبره هو رمزيا لضآلته في قاموسه المالي، يمثل بالنسبة للأجير كابوسا ماليا، وقسطا بنكيا خانقا، وتنازلا عن أساسيات العيش لشهور طويلة. إنه يمثل حوالي ضعف متوسط الأجر الشهري لموظف القطاع العام، الذي يكافح أصلا ليغطي متطلبات الحياة المستجدة بعد موجات تضخم منهكة استنزفت مدخراته.
والأدهى من هذا، أن السيد الوزير يرتكب تناقضا منطقيا يفضح هشاشة تبريره. فهو يزعم أن هذه الرسوم الرمزية ستخصص لتحسين أوضاع الأساتذة الجامعيين. يا للسخرية! فكيف لمبلغ يصفه هو بالبساطة والرمزية أن يحل فجأة معضلة أجور أساتذة التعليم العالي الذين ما انفكوا يطالبون بتحسينها، وبالتعويض عن الإشراف، وتمويل النشر العلمي، وتغطية مصاريف التنقل للمؤتمرات؟ هذه مطالب هيكلية توفرها دول قد تكون أفقر من المغرب، كمصر، لأساتذتها. وبذلك يضعنا الوزير أمام خيارين كلاهما كارثي: إما أن المبلغ رمزي فعلا، وبالتالي هو يبيع الوهم للأساتذة الباحثين بأن فتاتا سيحل مشاكلهم البنيوية، أو أن المبلغ ضخم وغير رمزي بالمرة، وهو بذلك يرهن دخل أستاذ التعليم العالي بتسجيل الأجير البسيط في توليفة لا يوجد مثلها في العالم بأسره. بينما تتنصل الدولة من مسؤوليتها الحقيقية في تمويل الجامعة.
والأنكى من ذلك، أن هذا القرار يكرس جباية مضاعفة ظالمة. فالموظف الذي يطالب اليوم بدفع هذه الرسوم الباهظة هو نفسه دافع الضرائب الرئيسي الذي تقتطع من أجره شهريا الضريبة على الدخل (IR)، والتي تصل نسبها إلى 30% في شرائح الدخل المتوسطة. هذه الضريبة هي التي يفترض بها تمويل ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي. والحكومة، بهذا القرار، تعاقب الموظف مرتين: مرة حين تقتطع من راتبه لتمويل الجامعة، ومرة ثانية حين تمنعه من دخولها إلا بخمسة عشر ألف درهم كل سنة.
لكل ذلك لا يجب أن نستغرب إذا انفجرت الاحتجاجات. فالضغط المتواصل على الطبقتين الوسطى والفقيرة، خاصة في ملفات حيوية كالتعليم والصحة، هو الذي يشعل فتيل التوتر الاجتماعي. هذه القرارات التراجعية ليست مجرد سوء تقدير، بل هي مغامرة خطيرة بالسلم الاجتماعي. وبدل أن تستجيب الحكومة لتطلعات محدودي الدخل وتخفف عنهم العبء، نراها تصر على إنهاكهم.
ويبدو أن هذا الإصرار ليس وليد قناعة وطنية، بل هو استجابة سريعة لإملاءات خارجية تهدف إلى استرداد التكلفة وتحميل المواطن نفقات الخدمات العمومية، وهي وصفة جاهزة تفرضها المؤسسات المالية العالمية المقرضة، تكرس النظام الاقتصادي العالمي المتوحش، الذي يرى في التعليم سلعة وفي المواطن مجرد زبون. وما كان رمزيا في خطاب الوزير، أصبح كابوسا طبقيا في واقع الأجير.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي Media90