بعد صدور قرار مجلس الأمن 2797 يوم 31 أكتوبر حول نزاع الصحراء، لوحظ نوع من ارتباك الموقف الدبلوماسي لدى الجزائر وجبهة البوليساريو، فوزير الخارجية الجزائري، السيد أحمد عطاف، في لقاء تلفزيوني، اعتبر خروج القرار بصيغته النهائية انتصارا للدبلوماسية الجزائرية، وأنها نجحت في أن تزيل من المسودة الأصلية للقرار جوهره الداعم لمقترح الحكم الذاتي بوصفه حلا وحيدا وحصريا، وأن القرار انتهى في الأخير إلى تقرير نفس المواقف السابقة للأمم المتحدة، التي تبقي التفاوض مفتوحا على كل الخيارات، ومشروطا بتوافق الطرفين، وأن القرار لم يلزم الجزائر بالدخول في التفاوض، وأن القضية بيد الطرفين: (المغرب وجبهة البوليساريو) وأنه لولا عدم إدراج الحكم الذاتي في ديباجة القرار لصوتت الجزائر عليه ! فيما تصر دبلوماسية البوليساريو على التأكيد على انتصار أن القرار لتقرير المصير، وأنه يلزم المغرب بترك أي شروط مسبقة في التفاوض، بما يعني طرح مقترح المغرب للحكم الذاتي بعيدا عن طاولة الحوار.
في واقع الأمر، لم يصدر من قبل قرار لمجلس الأمن في مثل هذا الوضوح القانوني والسياسي بالنسبة لقضية الصحراء، إذ يؤطر مهمة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة بتيسير وإجراء مفاوضات استنادا إلى الحكم الذاتي المغربي، بهدف التوصل إلى حل عادل ودائم ومقبول للطرفين للنزاع» ويقيد الاقتراحات البناءة التي يمكن أن ترد من طرفي النزاع بـ«الاستجابة لمقترح الحكم الذاتي»، ولا يعتبر مقترح الحكم الذاتي ضمن الشروط المسبقة التي ينبغي الدخول للمفاوضات دونها، بل يجعل من الحكم الذاتي طبقا للمقترح المغربي أساسا للتفاوض.
هذا القرار غير بشكل كامل الإطار القانوني والسياسي للصحراء، إذ انتقل التكييف القانوني الدولي للصحراء من منطقة تحت السيطرة الإدارية للمغرب، إلى منطقة سيادة مغربية، كما هيأ الشروط القانونية والسياسية، ليتحول الإقليم بالتكييف القانوني الدولي من منطقة غير متمتعة بالحكم الذاتي إلى منطقة يتم التفاوض لإيجاد حل لها بناء على مقترح الحكم الذاتي، بما يعني في المحصلة، أن جبهة البوليساريو والجزائر معا، ملتزمتان – بمقتضى القرار- بالدخول في مفاوضات على هذا الأساس، وطي صفحة الاستفتاء بشكل نهائي، فالفقرة الثانية من نص القرار، تقحم كلا من الجزائر وموريتانيا ضمن مشمول المشاورات التي سيقوم للمبعوث الشخصي للأمين العام بمواصلتها للدفع بالعملية السياسية والبناء على التقدم المحرز.
في الواقع، نتفهم أن هذا القرار الذي أحدث رجة كبيرة في المنطقة، وغير بشكل مفصلي الوضع القانوني للصحراء، والإطار الذي ستتم على أساسه واستنادا إليه المفاوضات لحل هذا النزاع، فهذا النزاع الذي عمر نصف قرن، وكلف الجزائر موارد مالية ضخمة بمليارات الدولارات، لا ينحصر أثره فقط على السياسة الخارجية، بل يمس السياسة الداخلية، ويمس بشكل أساسي شرعية الدولة التي بنت زلزالا سياسيا، يتطلب سياسة طويلة المدى من أجل احتواء آثاره، خاصة وأن الخيارات بإزاء ذلك جد محدودة، إذ هي في المجمل منحصرة في سيناريوهين اثنين مكلفين معا: سيناريو معاندة القرار ومحاولة الالتفاف عليه، وذلك على شاكلة، ما وقع لخيار الاستفتاء الذي اعتمدته الأمم المتحدة سنة 1991، ثم اضطرت في ولاية المبعوث الشخصي للأمين العام فان فالسوم الذي انتهى في أبريل 2008 إلى اعتبار هذا الخيار غير واقعي وغير قابل للتطبيق، حيث اتهمت الجزائر وقتها الملك الحسن الثاني، بتبني سياسية طويلة المدى، لجعل الاستفتاء خيارا مستحيلا.
أما السيناريو الثاني الذي أمام الجزائر، فهو دعم القرار، وتيسير الوصول إلى حل نهائي للنزاع، من خلال تشجيع جبهة البوليساريو على التفاوض على مضمون الحكم الذاتي ومؤسساته واختصاصاته.
الجزائر لحد الآن، ولاعتبارات السياسة الداخلية أساسا، تريد الإيهام بأنها تنخرط في السيناريو الأول، ويساعدها في ذلك أن قرار مجلس الأمن، وضع أمدا زمنيا متسعا نسبيا، فلم يعد زمن ولاية المينورسو هو ثلاثة أشهر كما جاء في مسودة القرار الأصلي، ولا حتى ستة أشهر، التي وردت في بعض تعديلات هذه النسخة، وإنما هي سنة كاملة، لكنها في الواقع، أمام إكراهات وتحديات جديدة، فالآلية السياسية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية للحوار بين المغرب والجزائر لحل النزاع، لم تعد فقط حراكا دبلوماسيا للإدارة الأمريكية تحت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي اعترفت بالسيادة المغربية على الصحراء، وإنما صارت آلية مدعومة أمميا وبتغطية سياسية وقانونية من نص القرار، مما يعني في المحصلة، أن الجزائر مدعوة للانخراط بجدية في سيناريو دعم وتسير التفاوض بين المغرب وجبهة البوليساريو على أساس من الحكم الذاتي، وأنها قد تكون في حالة المعاندة، تحت طائلة الضغط الأمريكي باستعمال ورقة تصنيف هذه الجبهة ضمن الجماعات الإرهابية وما ينشأ عن ذلك من تحديات أمنية وسياسية على الجزائر بوصفها داعما للجبهة، ولعل في جزء من تصريحات قيادة الجيش الجزائري، بأن البلاد تمر في ظروف جد حساسة، ويتعرض أمنها القومي لتحديات كبيرة، محاولة أولية لإعادة تعريف المصالح الجزائرية في محيط إقليمي متوتر في جنوب الجزائر وشرقها، ومحكوم بالتحول الأخير في ملف الصحراء وملف التحرك الأمريكي المصالحة بين المغرب والجزائر لاعتبارات تدخل ضمن التقدير المصلحي الاستراتيجي الأمريكي.
السيناريو الثاني، مريح للجزائر بالنظر إلى وضعها الإقليمي وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، فالانخراط في تيسير ودعم التفاوض بين المغرب والجزائر بناء على مقترح المغرب للحكم الذاتي، ثم المصالحة للمغرب، يعني تفضيل خيار الاندماج الإقليمي، وعدم معاندة التحولات، كما يعني عدم عرقلة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، لكنه، قد يكون مكلفا بمعيار الكلفة الداخلية، فالنظام لجزائري سيكون مدعوا لتقديم جواب للداخل بعد خسارة ملف ظل يستثمر فيه، ويحرم الشعب الجزائري من جزء مهم من عائدات التنمية لقاء دعم جبهة البوليساريو، وتحمل كلفة سد الحدود مع المغرب وقطع العلاقات الدبلوماسية معه، وتعطيل مسار الاندماج المغاربي في أبعاده المختلفة.
الملك محمد السادس، في خطابه بعد صدور قرار مجلس الأمن، منح في واقع الأمر الجزائر ورقة مهمة لتجنب كلفة هذا التحدي الداخلي، فالذين يعتقدون أن شرعية الدولة يمكن تسقط أو تتعرض للتهديد بخسارة «حلم استقلال الصحراء وحصول الجزائر على واجهة أطلسية»، لا ينظرون إلى الجانب المقابل في الموضوع، وهي أن هذه الشرعية، يمكن أن تعزز في حالة المضي بشجاعة نحو المصالحة مع المغرب، وتقديم خطاب سياسي صادق وواقعي، يعتبر أن دور الجزائر هو مساعدة الطرفين للتوصل لحل سياسي، وأن البوليساريو في حالة اختيار التفاوض على أساس الحكم الذاتي، فإن الجزائر ستدعمها في ذلك، وأنه آن الأوان لنسيان جراحات الماضي، والإقدام على قرار شجاع، بإصلاح العلاقات المغربية الجزائرية وتحويل العداوة بين البلدين إلى مصدر قوة إقليمية، لتنسيق الرؤى لحل المشكلة الليبية، وبناء الاتحاد المغاربي، وتيسير التكامل الاقتصادي فيه، وتأمين الاستقرار في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وتحويل المنطقة إلى منصة للاستثمارات الأجنبية أو رئة تتنفس فيها كل الاقتصادات العالمية التي تتطلع للاستثمار في إفريقيا، وفي الآن ذاته، تجنب كلفة قيام القوى الدولية بالوساطات بممارسة الضغط على الطرفين لتحقيق مصالحة تتم بشروطها.
بلال التليدي
كاتب وباحث مغربي





تعليقات
0